غياب أردوغان عن المشهد السياسي لأيام عدة واختفاؤه عن الأنظار وشاشات التلفزيون فتح الباب على مصراعيه أمام التكهنات والإشاعات حول صحة رئيس الوزراء التركي وتدهور وضعه الصحي وإصابته بمرض عضال، وأنه يعاني سرطانا في الدماغ أو سرطان القولون، وأن الأدوية التي يتناولها لها تأثيرات نفسية تجعل أردوغان متوترا وغاضبا. هذه الإشاعات انتشرت جراء نشر صحيفة ""أيدينليك"" التركية تقريرا عن العملية الجراحية التي أجريت لأردوغان في مستشفى جامعة مرمرة في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وجاء فيه أن إحدى الناشطات المعارضات نجحت في الوصول إلى ملفات أردوغان الصحية التي أظهرت أنه مصاب بسرطان في الدماغ منذ سنة ونصف السنة، كما أن لديه سرطانا في القولون. صحيفة ""أيدينليك"" التركية مقربة من شبكة ""أرجينيكون"" الإجرامية التي ألقي القبض على قادتها من الضباط والسياسيين والإعلاميين بتهمة محاولة الانقلاب على الحكومة، وتعمل هذه الصحيفة منذ اندلاع الثورة في سورية كإحدى وسائل إعلام النظام السوري وتقوم بترويج دعايته وتشويه سمعة الثوار، وهي التي فبركت قبل ذلك خبر تعرض السوريات للاغتصاب في مخيمات اللاجئين في تركيا، بهدف الإساءة إلى اللاجئين والمخيمات. لم تَسُرَّ التكهناتُ والإشاعاتُ حول تدهور صحة رئيس الوزراء التركي أحدا كما سَرَّتْ إعلام النظام السوري وحلفاءه والكتاب والناشطين الموالين له، فالتقطوها كمن وجد ضالته ونشروها على نطاق واسع كأنباء مؤكدة لا غبار عليها، مع طرح أسئلة من نوع: ""لو لم يكن المرض الذي يعانيه أردوغان ثقيلا لماذا يبقى في المنزل أسبوعين حتى الآن؟ ولماذا لم يخرج ولو لخمس دقائق ليطمئن الرأي العام عبر شاشة التلفزيون؟""، في محاولة لإثارة الشكوك وإضفاء المصداقية على ما يقولونه، دون أن يشعروا بالحاجة إلى إخفاء فرحتهم بمرض أردوغان، متمنين موته وغيابه عن وجه الأرض نهائيا، حتى كتب أحدهم في حسابه في ""تويتر"" إن رئيس الوزراء التركي على شفير الموت وزعم أن ""وفاته ستعطِّل مشروع الانقضاض على الثورات العربية لمصلحة التيارات المتأسلمة خدمة للمشروع الصهيوأمريكي""! تلك الإشاعات كانت في الحقيقة عارية عن الصحة وكان هدفها إثارة البلبلة والضجة الإعلامية للتشفي من أردوغان بسبب موقفه من شبكة ""أرجينيكون"" الإجرامية ومن النظام السوري، وكل ما حدث هو إجراء عملية جراحية ناجحة قام بها فريق من أفضل الأطباء وأكثرهم خبرة في تخصصاتهم، واقتطع فيها جزء من قولون أردوغان لإرساله إلى الفحص، وأظهرت نتيجة الفحص أن القولون نظيف من أي علامات للسرطان. ومن ثم انتقل أردوغان إلى بيته لقضاء فترة النقاهة، واستقبل في تلك الفترة كلا من نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في بيته، وبعد نهاية فترة النقاهة وتحسن وضعه الصحي عاد إلى ممارسة أعماله اليومية. ومن الطبيعي جدا أن تظهر على أردوغان علامات التعب والإرهاق بعد إجراء العملية له، فالرجل يصل ليله بنهاره منذ تولي حزبه الحكم في البلاد ويواجه كثيرا من المشكلات والمتاعب في الداخل والخارج، ويخوض معركة الإصلاح وتعزيز الديمقراطية، وتعرض مرات عدة لمحاولة الاغتيال. والأيام تمضي بسرعة البرق وعقارب الساعة لا تتوقف عن الحركة، وأردوغان يبلغ من العمر 58 عاما ومهما يعتبر شابا مقارنة بكثير من الزعماء فإنه يقترب يوما بعد يوم من الشيخوخة، ومن هادم اللذات. البقاء لله، وكل نفس ذائقة الموت، وقد يموت أردوغان اليوم أو غدا أو بعد غد، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولنفترض أن رئيس الوزراء التركي - بارك الله في عمره - لقي ربه اليوم فماذا سيحدث؟ لن تظل الحكومة التركية بلا رئيس ولا حزب العدالة والتنمية بلا زعيم. ولن تتوقف الحياة السياسية وستواصل الناس شؤونها اليومية ولن ينهار النظام. لا شك أن أردوغان زعيم قل نظيره ويتمتع بكاريزما فريدة، ويكون رحيله خسارة كبيرة للسياسة التركية، لكنه أمر لا مفر منه، وسيأتي عاجلا أو آجلا. وإذا ترك أردوغان منصبه بأي سبب يتولاه غيره؛ هناك عشرات من المرشحين المحتملين لهذا المنصب، ومن يدري فربما من يأتي بعده قد يكون أفضل من أردوغان نفسه! إن الذين يراهنون على موت أردوغان ينسون أن النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية لا يسمح لأعضائه بالدخول إلى البرلمان لأكثر من ثلاث دورات نيابية متتالية، وأردوغان أعلن مرارا أنه سيلتزم بهذا النظام ولن يترشح في الانتخابات القادمة، أي أنه سيترك منصبه ولو كان في كامل قواه العقلية والبدنية، ولا يريد أن يظل على رأس حزب العدالة والتنمية مدى الحياة، بل يرى أنه لا بد من فتح المجال لقيادة الشباب. النجاحات التي شهدتها تركيا في السنوات العشر الأخيرة لم يحققها أردوغان وحده، وهذا لا يعني التقليل من دوره ومكانته، لكن تجاهل الظروف والبيئة التي أسهمت في تلك النجاحات واختزال أسبابها في جهود أردوغان إجحاف في حق إرادة الشعب التركي ووعي المجتمع المدني ونضال عدد كبير من المثقفين في سبيل تعزيز الديمقراطية. وقد يتغير رئيس الحزب الحاكم أو حتى الحزب نفسه، ويتقدم هذا ويتراجع ذاك، إلا أن عجلة الإصلاح لن تتوقف ما وقف وراءها الشعب التركي.