د. سلمان العودة - المدينة السعودية « اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ » قرار نبوي عظيم عظيم، ربما ندرك طرفاً منه لو تخيلنا الموقف الذي قيل فيه، والناس الذين خوطبوا به، إنهم رجال عذَّبوا المؤمنين، وقتلوهم، واستولوا على منازلهم، وشرّدوهم، ولم يُظهروا ليناً ولا رحمة، وإلى قريب كانت سيوفهم تقطر من دماء الأبرياء المؤمنين المستضعفين! هذه القدرة الهائلة على الصفح في أوسع معانيه سمحت بطيّ صفحة الماضي، وجنّبت مكة والجزيرة الحروب الأهلية، وأفسحت المجال لقيام دولة الخلافة الراشدة؛ التي هي أنموذج لا يتكرر، ولكنه يحاكى باقتباس قيمه العظيمة؛ في العدل بين الناس، والرحمة بالخلق، والحرية. أول من استخدم لفظ «الحرية» بمفهومه الشامل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! القتل والتصفيات والانتقام يجلب العداوات، ويُحضّر لجولات قادمة من الصراع والانتقام العكسي، والحكيم هو من يسعى إلى وقف دوامة العنف والعنف المضاد، بالتفوق الأخلاقي على نوازع النفوس، كما قال البحتري: وَفُرسانُ هَيجاءٍ تَجيشُ صُدورُها بِأَحقادِها حَتّى تَضيقَ دُروعُها تُقَتِّلُ مِن وترٍ أَعَزَّ نُفوسِها عَلَيها بِأَيدٍ ما تَكادُ تُطيعُها إِذا احتَرَبَت يَوماً فَفاضَت دِماؤُها تَذَكَّرَتِ القُربى فَفاضَت دُموعُها شَواجِرُ أَرماحٍ تُقَطِّعُ بَينَهُم شَواجِرَ أَرحامٍ مَلومٍ قُطوعُها حصاد الثورة هو شيء مختلف تماماً عن حالة العسف، والطغيان، والاحتكام إلى القوة، والأنانية، وفرض الأجندة الخاصة.. كما كان يحدث في ظل نظام القمع السابق. الثورة حدثت لتغيير الأوضاع، وليس الأشخاص. (غنيمة لنا فيها سهم) هذا ما يجب أن يشعر به كل انسان، بغض النظر عن تياره الفكري، أو حزبه السياسي، أو قبيلته، أو المنطقة التي ينتمي إليها، بل وبغض النظر عن تاريخه فالثورة تَجُبُّ ما قبلها! لا ينبغي أن يظلم أحد على هذه الأرض مرة أخرى أياً كان دينه أو مذهبه أو انتماؤه. يجب أن يكون المستقبل لكل الناس، نعم؛ لن يرضى كل الناس فرضاهم غاية لا تدرك! فليكن الاحتكام إلى دستور يتوافق عليه أهل البلد، مرجعيته الشريعة؛ لأن البلد كله مسلم، ثم صناديق الاقتراع، وفصل السلطات والقضاء النزيه المستقل. التغيير سنة الحياة، فحتى الثورات التي تنجح وتكون دولة تنتقل إلى وضع جديد مختلف، قد يعجز بعض من ضحّوا عن فهمه واستيعابه، ويبقى في نفوس الكثيرين تساؤلات وإشكالات وأحياناً حزازات يبطئ زوالها. علينا أن ندرك أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان (لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وأن النقص من طبيعتها، والناس لم يكونوا مع الأنبياء على الوفاق والتسليم حتى كان في أتباعهم ما كان، والله يبتلى المؤمن وغير المؤمن، ويبتلى المرء بعدوِّه تارة، وبصديقه تارة، وقد يبتليه بنفسه! و من خير حكمة الحياة الصبر، وإلجام النفس والسعي في تأليف النفوس، وتقريب البعيد، وترويض النافر والشارد، وعدم إنفاذ الغضب (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(الشورى: من الآية37). ثمَّ فقه جديد هو «فقه الثورة ومآلاتها»، غدت الحاجة إليه ملحّة في ظل التغيرات المتسارعة المفاجئة التي أحلم ويحلم الكثيرون أنها سوف تدشّن مرحلة جديدة، هي خير وأفضل بكثير مما عشناه وعانيناه، دون أن يعني هذا أن نتوقع شيئاً خارقاً للعادة، أو خارجاً عن الناموس، فلنسمح لأنفسنا بالفرح والابتهاج، ولا تحرمنا منه مخاوف المستقبل ومخاضاته، فالجنين يصرخ مستهلاً، وهو بحمد الله بخير، وقد يكون أنثى، والحرية أنثى، فلا تكن ممن يتوارى من الغيظ من سوء ما بُشِّرَ به، وربما كانت الأنثى (خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)(الكهف: من الآية81)!