مصادفة قرأت هذه القصة التي وردت في التلمود عن ذيل ثعبان قال لرأسه ذات مرة "إلى متى تظل تقود وأنا أتبعك في المسير؟ دعني مرة أقود وأنت تتبعني !" فأجاب الرأس "حسن جدا: سر أنت أولا". وهكذا سار الذنب وتبعه الرأس، وعندما اقترب من قناة مليئة بالماء سقط الذنب وسحب الرأس وراءه. لم تنته القصة بالانتهاء من قراءتها، فقد وجدت أن عوالم من المعنى تتفجر فجأة وتلتقط من أغوار الذاكرة قصصا عادية وبسيطة، أو حوادث تاريخية وكبيرة تجد مصداقيتها في قصة الرأس والذيل. بعض هذه الحوادث عن أسرة خرجت كلها بسيارة يقودها الأب إلى سفر طويل وطريق وعر، أصر الابن الصغير على تحريك جسده الذي تعب من جلوسه في مؤخرة السيارة وأقنع الوالد بضرورة أن ينال قسطا من الراحة فتولى عنه القيادة ليهبط إلى وادي سحيق بالموت.. وحكايا كثيرة عن فتيات صغيرات منحن "حرية القيادة" بحياتهن في غياب حكمة النضج وجلاء الرؤية للكبار فضلت البنات.. وحكايا كثيرة عن فشل في التعليم والعمل لا يقف عند سقوط الفرد، بل تجاوز الفرد إلى المجموع والقضاء على العمل كله، ومن يفتش عن كثير من حالات البنوك التي أفلست، والتجارة التي بارت، والمباني التي هدمت، أعني من يتأمل قصص الفشل في مجملها ربما وجد أسبابا أساسية وراءها أن رأس الحكمة ونصاعة الرؤية قد تخلت عن موقعها لذنب صغير قليل الحنكة فاقد الحكمة أريد له أن يكون في المقدمة. تهون كل هذه القصص، لكن ما يفجعني هو ما دفعني إليه الحكمة في قصة الثعبان، إلى تأمل المشهد العربي العام في بلاد كانت موعودة بالإزدهار والنماء في ظل ربيع جاء في غير أوانه في مواقيت فصل الشتاء المعروف بالجفاف وتساقط الأوراق. كثيرا ما كنا نضج بالشكوى لأوضاع متردية في بلاد الربيع الجديد، هل كان ذلك لأن قيادة البلاد كانت في الأذناب من المنتفعين والباحثين عن مصالحهم الشخصية والطامحين إلى أنانية القيادة وهم مفرغون من الحكمة والرؤى؟ أزاح الربيع تلك الأذناب، ولكنه لم ينبت حتى الآن زهرة من زهور الربيع، بل اجتثت ما كان قد بقي أو أفلت في أزمان سابقة، وهل تنبت أرض امتلأت بالدماء زهورا؟ ترى هل بقيت الساحة فارغة تجول فيها أذناب جديدة لشباب مازال يغط في جهالة الوعي، وبلطجية وشبيحة (هذه مسميات أفرزتها الثورات العربية وزادت بها معاجم السياسة)، والعاطلون والصبية فهموا الحرية بالإنفلات، والعدالة الإجتماعية بامتلاك ما يملكه الغير، والحق الفردي في الرغبة والإرادة مهما كان حجم الإختراق والجموح فيهما.. هذه الأذناب وغيرها ممن خرجوا من موات المجهول للاشتغال بالسياسة وقيادة الرأي على شاشات التلفزيون ووسط جمع التظاهرات وفي مواقع قطع الطرق وتعطيل الحياة وتكبيد الخسائر، كل هذه الكوارث كنت أقول: هل جاءت بأن كل هذه الأذناب الجديدة هي التي حلت في القيادة محل الأذناب القديمة، إذاً لايزال رأس الحكمة حتى اللحظة غائبا ومجهولا!.