في زمن سابق كان يكفي أحدهم أن يحفظ عددا من أسماء المفكرين وبعض عناوين كتبهم وعبارات لهم، وما إن يذكر جزءا مما حفظ في مجلس ما حتى يقال إنه مثقف.. ولو أضفنا إلى هذا الأنموذج أولئك الذين تبنتهم الأنظمة ليدافعوا عنها وينطقوا باسمها – ونرى كثيرا منهم على الفضائيات هذه الأيام – لصرنا أمام حالتين غير مقبولتين شعبيا. وجود ما سبق لم يمنع المثقفين الحقيقيين من الوصول إلى الناس بما يمتلكون من وعي ومعرفة ومخزون فكري تمكنوا به من صنع رؤية جادة للحياة، ما قاد الكثير إلى تصنيف من يهتمون بالثقافة إلى مدع لها ومثقف حقيقي. بعد بدء "الربيع العربي" حاولت الأنظمة التي تعرضت وتتعرض للضغط الجماهيري بالإصلاح أو الرحيل أن توظف أدعياء الثقافة لصالحها في إقناع الناس بأهمية استمراريتها، لكن الفراغ الفكري لدى الأول والرفض الشعبي المسبق للثاني جعل الناس تنفر أكثر بدل أن تقتنع.. فارتبكت تلك الأنظمة التي لم تستطع إقناع المثقفين الحقيقيين بالوقوف إلى جانبها والدفاع عنها، إذ إن هؤلاء انقسموا إلى فريقين، أغلبية صامتة لم تعبر عن موقفها تجاه الثورات التي تجتاح بلدان "الربيع" خشية قمع الأنظمة، وأقلية عبرت عن رأيها بشجاعة وانحازت للشعوب ضد الأنظمة، فتعرض هؤلاء لقمع الأنظمة وتقدير المتظاهرين والمحتجين من أصحاب المطالبات بالإصلاح أو إسقاط الأنظمة القائمة لتكوين أنظمة تحترم الحريات وتحاسب الفاسدين وتطور اقتصاد البلد ولا ينهبه رجالاتها. وعلى الرغم من قمع الأنظمة للمثقفين الذين انحازوا للشعوب إلا أن الحركات الشعبية ازدادت غليانا، ووصل الأمر في بعض الدول إلى اعتقال وتعذيب المثقفين الذين يخرجون مع الشعب في المظاهرات، وكأن الأنظمة ما زالت تظن أن المثقفين هم من يقود الثورات وأن أفكارهم تحرض الجماهير على تصعيد المظاهرات. وهي في ذلك تجهل أو تتجاهل أهم مزايا ثورات "الربيع العربي" وهي أنها من غير قادة، فالقائد الوحيد لها هو الشعب الغاضب. وتتعامى أيضا عن أسباب الثورة الشعبية التي اندلعت من تراكمات للأخطاء والفساد وصلت إلى حدّ لم تعد شعوب "الربيع" تستطيع السكوت عليه. ثمة أنظمة انتهت وثورات أنجزت مهمتها الأولى بإعلان انتصارها، وثمة أنظمة تقاوم المد الجماهيري وأمواج الثورات الهائلة وتطلق الوعود كمناورات مع زيادة حدة القمع، لكنها تترنح تدريجيا، لأنها تصر على فهمها القديم للأمور، ولا تعترف بثورات شعوب أصبح كل فرد منها مثقفا حقيقيا بحقوقه وحرياته وأحقيته في حياة كريمة، وربما يفترض أن يكون هذا هو التعريف الجديد للمثقف.