د.محمد عبدالله العوين - الجزيرة السعودية هل ثقافتنا في مأزق ؟ وهل من أمل للخروج بالثقافة السعودية من أزمتها المزمنة التي طالت؟! لا أريد الخلط بين مؤتمر الأدباء السعوديين الذي انعقد الآن ثلاث مرات؛ 1394ه و1419ه و1430ه والملتقى الأول للمثقفين السعوديين الذي انعقد في دورته الأولى 1425ه ويبدأ قريباً أولى جلسات دورته الثانية. لا أريد أن أزج بتوصيات الأدباء مع توصيات المثقفين رغم الفضاء الواسع الذي يجمعهما ولا نكاد نرى فارقا يذكر بين قرارات مؤتمرات الأدباء الثلاثة وتوصيات الملتقى الأول للمثقفين السعوديين!. إن ما يشغل كل حفي بثقافة وطنه وتقدم وازدهار أدبه وانتشاره وذيوعه وتقديمه بالصورة الحسنة التي تليق بهذا الوطن المريم ما يتم من تطبيق وتنفيذ دقيق لكل أو أكثر ما يتوصل إليه المنتدون. الحقيقة المرة التي لابد من أن نكاشف أنفسنا بها ألا شيء ! نعم: لا شيء يا أدباء! لا شيء يا مثقفون! والذي تبين جليا أن أصحاب الصوت العالي والكلمة النافذة والجدل والمقدرة على القول هم أقل من يحصل على حقوقه! جلجلة كلام وقرقعة ألفاظ ولاطحين! قدموا لي أيها السادة قرارا واحدا فقط اتخذه المؤتمرون الأدباء أو الملتقون المثقفون ووجد طريقه إلى النور!! أين انعقاد المؤتمر بصفة دورية منتظمة؟ وأين مجمع اللغة العربية؟ وأين رابطة الأدباء؟ وأين صندوقهم؟ وأين آلية تنظيم المشاركات في الأنشطة الثقافية ومنها المؤتمرات الثقافية في الداخل والخارج، والسماح للموظفين بحضورها ؟ وأين نظام تفرغهم للبحث العلمي والإنتاج الأدبي؟ وأين دعم الكتاب وتهيئة السبل لانتشاره في الداخل والخارج؟ وأين طباعة الرسائل العلمية المتميزة؟ وأين جائزة الدولة التقديرية في الأدب؟ وأين تكريم المتميزين من الأدباء والمثقفين والباحثين؟ وأين المجلات العلمية والأدبية؟ وأين القنوات الثقافية المتميزة؟ بل أين هي وزارة مستقلة ل»الثقافة « ترعى كل هذه الهموم وتكون هي المرجع والمسؤول أمام المثقفين والأدباء؟! لا نريد أن يكون لقاء المثقفين الثاني هذا تظاهرة إعلامية فحسب، ولا لقاء تعارف فحسب، ولا ورقات تنظير تلقى بكسل ثم تنسى، ولا توصيات تدون ثم تطوى ويظل الحال على ماهو عليه!!. نحن - والحق بعضه مر على حلاوة الاعتراف به - في أزمة عمل ثقافي، نحن في مأزق عجز إن لم نقل كساحا ثقافيا يظهرنا - مع الأسف - أمام الآخر القريب والبعيد غير الفطن بلداء هامشيين سطحيين ليس لدينا ما نقوله ولا نملك ما يمكن أن نظهره للآخرين من إبداع ودراسات وفكر! لقد صورنا هذا العجز العملي الثقافي في عيون الآخرين صورة مشوهة وغير حقيقية، أضافت إلى الصورة السلبية التي أحدثها التطرف الديني سوءا على سوء ؛ بل إنني لا أجانب شيئا من الحقيقة إذا قلت إن هامشا غير ضيق من ظاهرة «التطرف» التي أحكمت خناقها على مجتمعنا ثلاثة عقود كان من أسباب تكونها وتفشيها، ثم استفحال عجز الثقافة الرسمية بأطيافها الثلاثة: التعليمية والإعلامية والثقافية عن صياغة مشروع ثقافي وطني إسلامي مستنير! فالتعليم كان شهادات فجة فحسب، والإعلام بيانات وجمل مكررة وقوالب مصبوبة مقيدة معادة ومكرورة، والثقافة مشتتة متنازع عليها ومضيع دمها بين القبائل من جهات حكومية متعددة، فكانت بجانب الرياضة لاتكاد ترى في جهاز واحد، وليس هناك من إستراتيجية أو خطاب فكري ثقافي يعصم الناشئة ويملأ الفراغ ويكون شافيا ووافيا ومقنعا ومغنيا عن الارتماء في تيه خطابات تطرفية انهزامية متصيدة متربصة تنتظر فرصة الفراغ المذكور لاختطاف جيل بأكمله إلى أحضانها!. لنعترف أن خلو جهازنا الحكومي من مؤسسة ثقافية رسمية تضع الخطط والإستراتيجيات ومهيأة بالقدرات الفكرية والأدبية والإعلامية المتمكنة والمتميزة هو ما أفضى بنا إلى هذه الحال من ضياع جيلين أو أكثر في متاهة التجريب الفكري التطرفي، واصطيادهم في شباكه لعدم وجود خطاب آخر قوي ومقنع، وهو أيضا السبب في ضعف صورتنا الثقافية والإبداعية في الداخل بحيث تفتقد التأثير على الناشئة وجيل الشباب ؛ فهي تضع أمامهم صورة المثقف في وضع لايحسد عليه من عدم القبول وعدم التميز وعدم نيله فرص الحياة الكريمة موازنة بغيره ممن يجد فرصا أوسع وأكثر كرما وسخاء كالرياضيين مثلا! وخلونا من جهاز حكومي ثقافي قوي السبب أو جزء من عوامل كثيرة هو واحد منها في تشويه صورتنا في الخارج عند العرب الأقربين، وعند الخواجات الأبعدين! فلسنا عن جيراننا العرب أو عند كثيرين منهم سوى مستهلكين نتاجات غيرنا، ولسنا سوى مقلدين، ولسنا سوى مبهورين مشدوهين بنجوم الإبداع والكتابة العرب، وليس لدينا مايمكن أن نقدمه من أعمال متميزة، ولو سعينا إلى أن نقدم شيئا فإنه - حسب توقع كثيرين من جيراننا وإخوتنا العرب - لن يخرج عن رداء الانغلاق وضيق الأفق الفكري والديني، فكل ما لدينا يبدأ ويصب في النهاية من التطرف وإليه يعود! أما ما يخرج من نتاج منفلت من هذا القيد الثقيل - كما يفهموننا - فليس إلا نزوعا مراهقا متمردا وثائرا على القيود التقاليدية والدينية، ولا يمثل اتجاها إبداعيا أو فكريا يعتد به!. ليس من شك أن فقدان جهاز حكومي قوي ومؤسس ومدعوم ونافذ ومنطلق من رؤى واضحة ويملك خطابا عميقا متكئا على معطيات ثقافتنا التراثية وإشراقات اجتهاد فكري مستنير يصهر ثقافات وأفكار العالم من حولنا بصياغات متمدنة وواعية كان السبب الأهم في هذا التشوه الثقافي والإعلامي الذي نتنادى للبحث عن مخارج آمنة منه الآن. والله إن لمن العيب أن يجهلنا أبناء عمومتنا وشركائنا في الدين واللغة والدم، ولايعلمون من نحن، ولا ما لدينا ولا ما ننتج ولا ما نطبع ولا ما ندرس ونبحث ونؤلف! وإنه لمن العيب أن تتكون صورتنا العامة عند كثيرين ممن حولنا من زاويتين فقط: إما متشدد منغلق لايملك الحقيقة المطلقة إلا هو، وإما فاسد ماجن أو مترف فاسق لايحسن إنفاق المال إلا في الرذائل! أما الفئة الوسطى وهي الأكثر والأوفر والأملأ والأعمق وعيا وفكرا واطلاعا وإبداعا فلا تكاد تجد لها حضورا في مكتبات ومنتديات وأسواق ومهرجانات أشقائنا إلا على سبيل الندرة وبجهود شخصية خالصة!. لا نبالغ ولانجانب الحقيقة إذا ذهبنا إلى أن «التشوه» الثقافي المزمن ليس نتاجا كساح إبداعي ولا علمي ؛ ولكنه ناتج عن هزال عملي ثقافي، ثمة ما ننتجه مما يرفع الرأس عاليا، ولكن لانجد من يسوقه أو يقدمه للناس! إن المعضلة في عدم وجود خطة وفي فقدان رؤية وفي تشتت جهود متواضعة، وفي عدم وجود جهاز مركزي واحد يخطط ويجدول ويشرف على تحقيق ما يدون في البرامج والإستراتيجيات بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة. ولقد مكن الفراغ الهائل الذي أحدثه فقدان هذا الجهاز القوي المنشود من أن يستغل المتربصون والحاقدون والشانئون ما نتج عن ذلك الفراغ الفكري الذي ملأه الخطاب المتطرف بطروحات إرهابية وبرؤى منغلقة وبكراهية ومواجهة للثقافات العالمية الإنسانية ؛ بحيث صور المتربصون القريبون والبعيدون بلادنا وثقافتها على غير حقيقتها. وإذا كان هذا الملتقى سيخرج بتوصيات مكررة معادة منذ عام 1394ه حيث انعقد أول مؤتمر للأدباء السعوديين في مكةالمكرمة بتنظيم وإشراف من جامعة الملك عبدالعزيز ؛ فإن فائدته الوحيدة البينة هي في التأكيد على أننا لا زلنا ننبض ولم نمت بعد ولا زال إحساس يسكننا بوجود علة في أجسادنا وها نحن اجتمعنا للشكوى وبث الألم والبحث عن ترياق أو تعويذة أو رقية تدفع عنا شر حاسد إذا حسد!. يا أيها المنتدون الفضلاء: لماذا نتاجنا الفكري والعلمي والإبداعي يظل حبيس منازلنا؟ ولماذا الأديب والباحث يتكفف الناس ويتسول جهات عديدة لتسويق بضاعته وكأنه يبيع ماهو كاسد انتهت صلاحيته؟ ولماذا لاعب الكرة والفنان تملأ الشاشات صورته وتملأ البنوك أمواله على حين يتربص الفقر بالأديب والمفكر والباحث العلمي وتطارده الديون ولا يكاد يرى له إلا شيئا من خيال على الشاشات؟! ولماذ الأديب والكاتب العربي محظوظ موفور عند أهلنا بينما ابن الوطن غريب لايكاد ينال إلا الفتات؟! ولماذا لايكون أديبنا ومفكرنا ومبدعنا نجما محتفى به إعلاما ومالا كغيره من النجوم العرب، أو كغيره من الرياضيين والفنانين في وطنه؟! هل نسعى إلى تقدم وتحديث وازدهار شكلي خال من المعنى العميق ؟ كيف لأمة تريد أن تبني مجدا أو تستعيد حضارة وهي لا ترى سوى الطلاء؟ بل كيف يمكن أن يغدو الجيل القادم وليس بين يديه سوى صبات الأسمنت والبريق الكاذب؟ كيف هو وهو أجوف من داخله تتنازعه التيارات ويعذبه القلق وتستبد به المخاوف؟ ألا يحتاج إلى غذاء روحي وإلى اهتداء فكري ينير له طريقه ويبصره بالحلول لمعضلات النفس والواقع؟. وأكاد أذهب إلى أن توصيات الإخوة المنتدين ستكون في مهب الريح إن لم تكن عزيمة حقيقية لرسم إستراتيجية وخطط ورؤى واقعية قابلة للتطبيق ترسم ما يجب أن نكون عليه، وتتغيا وتلح على إنشاء وتكوين وزارة ثقافة ضخمة قادرة على الفعل والتأثير. إن وطنا كبيرا وعميقا ومغروسا في عمق التاريخ والتراث وله من الثقل الديني والاقتصادي والسياسي لايليق به إلا أن تكون ثقافته بضخامته ووزنه ومكانته وعمق تأثيره ونبل رسالته، فمن هنا شع النور وتخلق الإبداع، وأي قصور في الشعور بعمق هذه الرسالة هو عقوق في الحق التاريخي لهذا الوطن.