نشأت العلاقات المالية في المجتمعات القديمة منذ أن اهتدت الفطرة الإنسانية إلى ضرورة وجود عملات مالية كبديل للسلع والمواد وجميع الموارد الطبيعية والصناعية التي تمثل منفعة للفرد ومع تطور تلك العلاقات والتي ترتب عليها البيع بالآجل والاكتراء مقابل مال معين وغيرها من المعاملات المالية دعت الحاجة إلى امتهان تحصيل تلك المديونيات من المدينين لصالح الدائنين ونشأت مهنة تحصيل الديون بالوكالة عن الغير وقد جاءت الشريعة الإسلامية بمبادئ وجوب كتابة الدين المؤجل لحفظ الحقوق عملاً بقوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) وإمهال المعسر غير القادر على السداد (فنظرة إلى ميسرة ) ومع تزايد العلاقات المالية في العصر الحديث على مستوى الأفراد والشركات والمؤسسات نشأت في المملكة العربية السعودية مهنة تحصيل الديون نيابة عن الغير وفقا لمعايير نظامية وفي الواقع العملي فإن هذه المهنة تتطلب جهداً شاقاً للمشتغلين بها لأنها تقتضي مطالبة فئات من المجتمع تنحصر في المماطلين أو المعسرين والذين لا يستطيعون الوفاء بمديونياتهم إلا بصعوبة بالغة وخلال مدة زمنية طويلة ومن جانب آخر فإن الأنظمة السعودية التي تنظم إجراءات سداد هذه الديون تتسم بالقصور والذي يتمثل في عدم الحسم وطول مدة إجراءات التقاضي وباستعراض أوجه هذا القصور من واقع خبرتنا العملية في هذا المجال فإن الإجراءات النظامية تبدأ أولاً بمرحلة التداعي أمام المحاكم والجهات القضائية والتي تتباعد فيها مواعيد الجلسات كما أن المحاكم الشرعية قد نهجت عرفاً عدم الفصل في النزاع في حالة عدم حضور المدعى عليه ومثوله أمام القضاء رغم أن نظام المرافعات الشرعية يقتضي صدور أحكام غيابية في حالة عدم حضور المدعى عليه رغم تبلغه بالموعد دون عذر مقبول (المادة 55 من النظام) مما يعني تعليق صدور الأحكام الحقوقية في حالة عدم حضور المدعى عليه وثاني هذه المشكلات تتعلق بالتنفيذ وهي المرحلة الثانية من تحصيل الديون التي لا تخلو أيضا من السلبيات التي تتمثل في طول مدة الإجراءات وعدم اتخاذ إجراء حاسم في حالة عدم مثول المطلوب لدى الجهة التنفيذية و التعميم على المطلوب وإيقاف خدماته هو إجراء لا يصادف أهمية عملية في تحصيل المبالغ المطلوبة حيث يظل المعمم عليه متخفيا عن الجهات المعنية ويمارس نشاطه بشكل اعتيادي ، وثالث تلك المشكلات وأكثرها أهمية هو مبدأ الإعسار ورغم أن هذا المبدأ هو مقرر شرعي إلا أن المشكلة تكمن في أسلوب تنفيذه وانعقاد نية المدين مسبقاً على الاستفادة منه قبل نشأة الدين أما أسلوب التنفيذ فهو ادعاء الإعسار من المعسر وغير المعسر وتعمد إخفاء المال بالتحايل على الأنظمة أو الارتكان على شهود مأجورين وبشأن النية المسبقة فإنها تنعقد في نفوس الكثيرين من الراغبين في الاستيلاء على أموال الغير بالاطمئنان إلى الخلاص منها بصدور أحكام الإعسار وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله ) كما أن توقيف المدينين في الحق الخاص يثار حوله الجدل وتأباه مواثيق حقوق الإنسان الدولية التي استنكرت مساواة هؤلاء المدينين بغيرهم من المجرمين وتجار المخدرات والسارقين وغيرهم حيث أن سجين الحق الخاص لن يتمكن من العمل و سداد الدين المستحق عليه داخل أسوار السجون و إطلاق سراحه هو فرصة للعمل وسداد مديونياته بخلاف ما يترتب على سجنه من تراكم أثار نفسية واجتماعية على السجين والتي تنسحب تداعياتها المالية والأخلاقية على كافة أفراد أسرته و قد تساهم في انتشار ثقافة السجون في أوساط المجتمع ونحن إزاء هذه التعثر والجدل في الإجراءات النظامية ننهج الطرق الودية غالباً لتحصيل تلك الديون وننحاز إليها لأنها الأقرب لتوفير الوقت وانجاز المهام بدلاً من الانخراط في روتينية الطرق النظامية الممتدة لآجال غير مسماه بدون نتائج عملية ولهذه الأسباب فقد دعت الحاجة إلى تضافر الجهود والآراء على مستوى الفرد والدولة لوضع آلية جديدة لتحصيل الديون تتضمن سرعة الفصل في المنازعات الحقوقية التي تتعلق بمال وضمان سداد تلك الديون ببديل عن الإيداع في السجون ونرى من الحلول المقترحة أنه يمكن اشتراط وجود كفيل غارم أو أكثر لكل مقترض أو مشتري بالآجل أو مضارب أو مساهم وغير ذلك من أشكال المعاملات المالية كشرط لسماع دعوى المطالبات المالية ولابد من تفعيل دور قاضي التنفيذ في المحاكم الشرعية وإعادة توجيه دور السلطة التنفيذية في سرعة تنفيذ الأحكام القضائية خلال مدة محددة نظاماً وفق إجراءات نظامية محددة حتى نضمن بذلك سرعة نفاذ تلك الأحكام والتي تعد من أهم مشكلات تحصيل الديون وعلينا أن نتحرى الدقة في ادعاء الإعسار وفق الضوابط الشرعية ويمكن قراءة نية المطلوب من خلال أسلوب تعامله وموقفه المالي السابق على نشأة الدين حتى يتضح وجه تعمد التحايل على النظام من عدمه ، ونختتم برسالة تذكير للراغبين في الاستيلاء على أموال الناس بدون وجه حق بقوله تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )