تطرف البعض في الترويج لبعض النماذج في الحكم كالديمقراطية مثلا حتى جعلوا "العدالة" التي لا تتحقق من خلالها ليست بعدالة، ثم أهدروا قيمة كل جهود واقعية في التقارب مع النموذج العادل، بناء على انقلاب المعادلة في أذهانهم كل وسيلة أنتجها البشر في قضية "السياسة" يقصدون منها تحقيق العدالة في الناس، لا يمكن أن يفكر أحد من الناس بأن الوسيلة التي توصل إلى هذه الغاية هي هدف بذاتها، ولم يكن اليونان حين ابتكروا فكرة " الديمقراطية " إلا لغاية تحقيق العدالة، وعليه فإن هذا المقصد الأعلى هو الذي يتمحور عليه البشر، وإليه يسعون، وبه يتغنون، وعليه يتفقون، ولا يمكن لأحد من الناس أن يرى أن تحقيق العدالة بين الناس مجرد فكرة " ترفيه"، أو مسألة قابلة للأخذ والرد، بل هي قضية مركوزة في النفس البشرية، وغياب العدالة يعني تفشي الظلم، واستذلال الضعفاء، واحتقان النفوس، وتوترالعلاقات، وحضورها يعني اطمئنان النفوس، وتحقق السلم والأمن، والعيش بكرامة ونعمة موفورة. ولأن نصوص الشريعة وقواعدها العظيمة تتوافق تماماً مع كل قضية بشرية عقلية صحيحة، وتتوافق مع كل ما يتفق عليه البشر، جاءت نصوصها لتجعل من قضية العدالة فكرة محورية في الخطاب، فارتبط الظلم مع أعظم قضية جاء بها الإسلام وهي "التوحيد" فقال الله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)، لأن أعظم ظلم أن يسوي الإنسان بين خالقه وبين أحد من خلقه، ثم جعل الله تعالى هذا السلوك الإجرامي " الظلم " محرما على ذاته العلية، ومحرما كذلك على خلقه فقال: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..) رواه مسلم من حديث أبي ذر، وتتابعت النصوص من الوحيين لترسيخ مفهوم العدل بين الناس، وتحريم الظلم بحيث صارت القضية من قطعيات الدين ومحرراته الكبيرة التي لا تقبل جدلاً ولا مساومة، وجعل كل وسيلة تبذل في علاقة الحاكم والمحكوم لابد أن تصب في المصب النهائي وهو: تحقيق العدالة بين الناس كما أمرالله تعالى بهذا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)، وهذا في شأن غير المسلمين، فكيف بالمسلمين؟ لقد تكاثرت النصوص الشرعية على هذا المعنى حتى أصبحت أعظم قضية يمكن أن يتحرك لها وجدان الناس عقوبة الظلم التي تتجاوز النقمة الإلهية على الظالمين، إلى أخذ الجماعة بظلم بعض الأفراد، وخاصة حين يتساكتون على الظلم فيكون سلوكاً عاماُ ومقبولاً، ولذا لما فهم البعض من قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو الخبير بتأويل التنزيل : (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)، رواه الترمذي، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم مجرد تتعتع الإنسان في المطالبة بحقه، والإعلان بمظلمته سبيلا لفساد الأمم وذهاب هيبتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا قدست أمة لا يأخذ فيها الضعيف من القوي حقه وهو غير متتعتع)، رواه ابن ماجة. لكن مجمل النصوص الشرعية لم تركز على الوسائل بقدر تركيزها على هذه الغايات، ولم يخلف النبي صلى الله عليه وسلم بعده شكلاً واحداً للحكم، وإنما ركز على هذه الغايات من إقامة العدل والقسط والإصلاح بين الناس، والقيام بشؤونهم، أما المسائل الإجرائية الحياتية فهي متغيرة بتغير الزمان والمكان، وقد كان سلوك الخلفاء بعده عليه الصلاة والسلام يدل على تغير السبل للوصول إلى الخلافة بناء على اجتهادات خاصة منهم لا على نص صريح في الأمر. ولأن طبيعة الاجتماع البشري تقتضي أن تكون لهم قيادة وحكومة، فإن أولى أوليات قيام هذه الولايات تحقيق العدالة بين الناس، ورفع الظلم عنهم، ولذلك عمل البشرعلى خلق كل سبيل لهذه الغاية، حتى تشكلت عبر التاريخ الفكري المعاصر رؤى سياسية كثيرة، واختلف النظار في مقارناتهم بين مجمل هذه النماذج السياسية التي تحقق هذه الغايات، فقامت في التاريخ المعاصر حضارات كثيرة تحمل أيدلوجيات فكرية ترجمتها إلى توسع عسكري وثقافي واستقطاب في العالم للتبشير بهذه الرؤى الفكرية بناءً على قراءتهم للتاريخ الإنساني، وطبائع الاجتماع، حتى توصلوا إلى نماذج كثيرة هي محط جدل ضخم في المحافل الثقافية والسياسية، ولكن أحداً منهم لم يجعل وسيلته هي غاية في ذاتها، بل غاية لتحقيق الهدف الذي صنعت من أجله بتحقيق العدالة والرفاهية والحرية للجماهير، ولكنها تظل أفكاراً بشرية قاصرة، وقابلة للنقد والتفنيد، وقابلة للتعديل والأخذ والرد، وخاصة تلك المفاهيم التي نشأت عبر ظروف تاريخية وثقافية واجتماعية محددة، والتي تصلح للظروف الخاصة ولا تقبل التعميم لاختلاف الظروف والتأسيسات الدينية والثقافية، وعليه فإن التركيز على التبشير بنموذج معين للحكم والسياسة بناء على نجاحه في مجتمع آخر وجعل هذا النموذج هو أكسير الحياة، ونسيان الغاية التي يمكن أن تتحقق بأي وسيلة ضرب من قلب الموازين، وانتكاس الأفهام حين تجعل الوسيلة غاية، وهذا يشبه من يتعلم آلات العلوم التي توصل إلى الاجتهاد فيها، ثم يجعل هذه الآلات هي الغايات من العلوم. لقد تطرف البعض في الترويج لبعض النماذج في الحكم كالديمقراطية مثلا حتى جعلوا "العدالة" التي لا تتحقق من خلالها ليست بعدالة، ثم أهدروا قيمة كل جهود واقعية في التقارب مع النموذج العادل ولم يعتبروها جهودا مشكورة بناء على انقلاب المعادلة في أذهانهم، مع أننا نرى نماذج تاريخية كثيرة وواقعية من الخلفاء والملوك والقادة الذيم لم يسمعوا يوما بالديمقراطية ولم يعرفوا مذاهب أهل أثينا قد حققوا العدالة وأصبحوا أمثلة مضيئة في سماء التاريخ، ولم يزل التاريخ يتغنى بسيرة الفاروق عمر، وعمر بن عبدالعزيز، والملك الصالح قطز، ونور الدين محمود، وغيرهم من الملوك الذين حققوا العدالة بأدواتهم الخاصة، وسعد الناس في زمانهم، وصاروا مضربا للمثل في الحكم الصالح والراشد. إن جعل الوسائل الإنسانية غايات بذاتها يعطل العقل عن تلمس ما يصلح مشكلاته الواقعية، ويحكم على كل وسائل الإصلاح بالوقوف والتكلس، ويقلل أهمية كل عمل مصلح، ويعلق آماله كلها على تلمس النموذج الذي ارتضاه لا غير، وهذا بلا شك سوف يأتي على خلاف المقصود من الغايات التي يشترط فيها أن تكون مباحة ونافعة لا شي غير ذلك.