سلمان بن فهد العودة - عكاظ السعودية نقل الحكم الشرعي من إطاره النظري المجرد إلى صورة عملية، ومحاولة تنزيلها على فعل المكلف؛ هي اجتهاد بشري يتراوح بين النصوص وبين أحوال الناس، ويقوم بهذا الاجتهاد بشر تعتريهم صفات البشرية؛ حتى مع تمام الإخلاص والتجرد. ومنطقة هذا الاجتهاد هي ملتقى الزمان، والمكان، والإنسان، والحدث، والنص؛ كما في بحث العلامة ابن بيه «فقه الواقع والتوقع». فهم واقع الأفراد والشعوب النفسي والفكري، وقدر ما يتحملون من الشرع، وما يصلحهم ويصلح لهم؛ هو فقه دقيق تختلف فيه الأنظار، ويتفاوت في دركه النظار. والتطبيق العملي مركب من معرفة النصوص الأصلية أولا، ومن معرفة الظرف التاريخي الذي يراد التماس حكمه ثانيا، بما في ذلك معرفة الاستعداد للقبول وردات الفعل، وهل تعود على المجموع بالضرر، أو تربك مسيرة الحياة، أو تربك مسيرة الإصلاح المتدرج؟ تربك مسيرة الحياة بإثارة المشكلات، والتنازع الشديد المؤدي إلى انفصام عروة الجماعة، أو تراجع التنمية والاقتصاد، أو تسلط الأعداء. أو تربك مسيرة الشريعة ذاتها؛ بالانقلاب عليها، وسوء الظن بدعاتها، واعتقاد أنها جزء من الماضي ينبغي هجره، وعدم محاولته؛ لأن القدر الذي شوهد منها لم يراع فيه ظروف الحال، ولم يعط حقه من الفقه كما ينبغي. حين أفتى بعض الصحابة الرجل بالاغتسال من الجنابة وهو جريح فمات قال عليه السلام: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال.. »، وهذا يؤكد أهمية الفقه في المسألة، والسؤال عنها، وألا يفتات فيها إلا من اكتمل فقهه، وتم له آلة الفهم والاستنباط. فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من ظن أنه أخذ بالظاهر، ولم يراع واقع الحال لفرد، ومراعاة واقع الحال لجماعة أولى. ومنه يعلم أن الاستطاعة الواردة في الكتاب والسنة لا تعني قدرة الإنسان على فعل الشيء من حيث الإمكان المادي فحسب، بل تعني ما هو أبعد من ذلك، وهو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام قادرا على منع الأعرابي من فعله، وكان قادرا على هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم، وكان قادرا على قتل المنافقين، وترك ذلك كله لأن فعله يجر مفسدة عظمى، أو يفوت مصلحة عظمى، « لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه »، فهذه مفسدة إعلامية قصد تفويتها على المغرضين المتربصين، وخشية أن تنكر قلوب الناس تغيير الكعبة، أو يظنوا أنه قصد بذلك الجاه والمنزلة، وربما تزعزع يقينهم بحرمة البيت وهيبته! الأمر الذي كان واضحا منذ البداية وفي كافة الأحوال هو ما يتعلق بالكليات الأساسية والأصول الجامعة، من أمر التوحيد، ونبذ الشرك والأنداد، فهذا كان أعظم أصل دعا إليه الأنبياء جميعا، وجاء خاتمهم عليه الصلاة والسلام لتعزيزه، وترسيخه، وأفاض القرآن الكريم في الدعوة إليه، وبيان أدلته، ونفي ما يضاده أو ينقصه، بما في ذلك أمر الإيمان بالرسل، والكتب، والآخرة، وسائر ما يجب الإيمان به. والأمر الثاني يتعلق بالكليات، التي عليها مدار حياة الناس وسلامتهم، بحفظ ضروراتهم، ومصالحهم، ومتطلبات عيشهم؛ كالعدالة، وحفظ كرامة الناس، وحرياتهم، وسائر حقوقهم. وقد يسمي الأصوليون هذا ب «الضرورات الخمس»، التي هي حفظ الدين، والنفس (الحياة)، والمال، والعقل، والنسل أو العرض. ويضاف إليها حفظ الاجتماع ومتطلباته من الحرية والكرامة الإنسانية والنسيج الاجتماعي المكون لشعب أو أمة. والشريعة لم تأت بحفظ ذلك فحسب، بل بتنميته، وزيادته، وتعزيزه. ولو تأملت جملة الأحكام الشرعية لوجدتها تدور حول هذه المعاني الجوهرية. والسياسة الشرعية تقتضي تقديم هذه الأصول العظيمة على غيرها، ولو ترتب على ذلك تفويت بعض الجزئيات والتفصيلات. وسأحاول لاحقا تدوين بعض الشواهد الدالة على السياسة النبوية في رعاية الأصول الربانية، أو رعاية الأصول الإنسانية، التي عليها مدار صلاح الدين، أو مدار صلاح الحياة الدنيا، واستقامة أحوالها. إنه لسوء الحظ تبدو كثرة كاثرة من المهتمين مشغوفة بالفروع والجزئيات أكثر من شغفها بالأصول والكليات، ونتيجة لهذا الخلل في النظام الفكري والمدرسي يقع الجور على الأصول الكلية وإهمالها وإغفالها، أو اعتبار الحديث عنها تحصيل حاصل، أو عده هروبا من الميدان، فالميدان جدل محتدم لا يتوقف حول فروع الغالب أنها غير قطعية في الشريعة، أو حول صغائر في الحياة ليست ذات تأثير، بينما الأصول العظام تعاني من نقص الوعي وضعف الاهتمام!. فاللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والآراء لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.