هل ما زال ممكناً بمكان أن نقول اليوم: إننا وحدنا، (السعوديين) حماة السلفية التقليدية مثلما هو السؤال الأهم: هل ما زلنا كمجتمع نمتلك في صبغتنا وهويتنا هذه السلفية التي أضعناها للأسف الشديد في خضم التحولات والمدارس التي اقتحمت دارنا حتى أصبحنا بلا جدال طيفاً واسعاً من كل مدارس الإسلام السياسي، حتى أمست السلفية النقية بيننا اليوم غريبة يتناقص لها الأتباع والمريدون في أجواء الفهم السقيم للنوازل من القضايا والرموز والأسماء التي غيرت وجه هذا المجتمع. والذي أقصده بمصطلح (السلفية التقليدية النقية) هي على أقل الأحوال التي عايشها سواد الجمهور اليوم، في سلفية الأفاضل ابن باز وابن عثيمين وكل من عاصرهما أو تتلمذ على يديهما بكل الإرث الرائع الذي تلمس فيه آداب الكلمة الراقية التي لا تجرح ولا تكفِّر ولا تلجأ للإثارة أو الاستفزاز ولا تتحدث في الغرائب من الفتاوى ولا تنتقص أو تهزأ من رأي مثلما تترفع عن جدال المعارك في صغائر الأمور، وأكثر من هذا مثلما كانت هذه السلفية الحقة حصناً منيعاً وجداراً ساتراً في وجه الفتن بمثل ما كانت تنظر بتؤدة وبصيرة إلى مصالح الأمة العليا وإلى حاجة المجتمعات في الاستقرار والأمان ضد الأهواء والعبث والتلاعب الذي قد يهز أعمدتها واستقرارها تحت طائل اللغة الثورية الجديدة في الخطابات المختلفة الجديدة التي يبحث أصحابها عن الانتشار والشعبوية. كيف ضاعت هذه السلفية التقليدية أو بالأحرى كيف أضعناها حتى أصبحنا معملاً هائلاً لتجربة عشرات مدارس الإسلام السياسي وكيف ضاعت هويتنا بانقراض مرحلة هذه السلفية؟ وبالطبع، هناك أسباب خارج الإرادة ولا خيار لنا فيها مثلما كان هناك أسباب أخرى نحن بأنفسنا ساهمنا فيها وهذا هو الأهم للنقاش اليوم. الأسباب التي لا خيار لنا فيها هي ضغط العولمة والتقنية وثورة الاتصال وهذه العوامل في الزمن الحديث لن تترك لمدرسة واحدة أن تشعر بالاستقلال وأن تختار بنفسها أرضها التي تتحرك فيها وسماءها التي تتحكم فيها وتستقل بها. هو بامتياز عصر الخطاب العابر للفضاءات وزمن الداعية العابر للقارات مثلما هو بامتياز عصر انتفاء كل الشروط والأركان التي يجب أن يكون عليها الإمام والداعية. وحين تقرأ أن اليوم الواحد من أيامنا – المحلية – يستهلك في المعدل بحسب نشرة الوزارة المتخصصة ما يقرب من ألف نشاط ومحاضرة وأن الفضاء وحده يبث ما يزيد على 50 قناة متخصصة، فإن عليك أن تقرأ في المقابل ما يمكن أن يملأ هذا الحجم الهائل ونحن (قد وربما) نستمع في اليوم الوحيد الواحد ما يفوق كل ما دوناه وسمعناه وقرأناه عن كامل القرن الإسلامي الأول. وفي مقابل السبب الخارج عن الإرادة أعلاه، يظهر السبب الذي كتبناه بإرادتنا المحضة في ضياع السلفية التقليدية. تحت إرادة الضغط اللامدروس، فتحنا بأيدينا في العقود الأربعة الأخيرة حتى اليوم ما لا يقل عن مئة قسم وكلية للدراسات الإسلامية والشرعية. وتحت حسن الظن والوهم، كنا نعتقد أن منهج السلفية الذي كان هوية هذا المجتمع والبلد هو الذي سيتحكم في مناهج هذا الطيف الواسع ولكن من يملأ الفراغ؟ هم آلاف الكوادر التي كان لا بد لها أن تملأ أروقة الجامعات وقاعاتها المختلفة. وخذ بالمثال هذه الحقائق في أن ثلاثا من أقدم كليات للشريعة كانت في زمن مضى تعمل ولأكثر من حياة دفعتين متعاقبتين بأستاذ سعودي واحد وحيد يشغل المنصب الإداري بينما كانت كامل الكتلة الفكرية في القاعات وتعميم المناهج واختيار المقررات هم من الإخوة المتعاقدين الذين قدموا من بيئات ومدارس متباينة ومختلفة. ولك أن تتخيل كيف كان تأثير فرد واحد مثل – محمد سرور زين العابدين – في خلق أتباع صدحوا بخطابهم ضد المدرسة السلفية، وإذا كان هذا تأثير – الفرد – فكيف يكون تأثير آلاف الأساتذة الذين جاؤوا من كل مكان إلى قلب هذه الجامعات والأقسام والكليات المتخصصة. لقد جربت كل المدارس والحركات، وبكامل الحرية، كل أجنداتها المختلفة هنا تحت استغلال النوايا الحسنة لمجتمع محافظ لا يظمأ لشيء قدر ظمئه لخطاب الدين، وتحت تأثير هذه الكوادر تخرج الآلاف وهم أتباع لما تلقوه في هذه الجامعات والأقسام المتخصصة. ومع الزمن انحصرت السلفية النقية في فتاوى التلفزيون أو في هيئة كبار العلماء، وفي أحسن الأحوال عميد لكلية، بينما المعمل الحقيقي في يد هذه الكوادر التي تحكمت في صبغ مجتمع لا يمكن إعادة طلائه.