أن يكون لإسرائيل جاسوس فى مصر فذلك ليس خبرا. الخبر أن يتم القبض عليه، أما الضربة الأمنية الحقيقية فهى أن يتم ضبط بقية الجواسيس الذين يرتعون فى أرجاء مصر منذ فتحت أبواب المحروسة لأمثالهم عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979. وليس ذلك اكتشافا ولا هو من قبيل الأوهام، لأن التغير الذى حدث فى مصر بوقوع ثورة 25 يناير كان ولايزال يمثل خبرا كارثيا لإسرائيل، ولايزال يعد كابوسا لم يفق منه قادتها. وأى متابع لما تنشره الصحف الإسرائيلية من تعقيبات وما يتسرب من تعليمات لرئيس الوزراء تتعلق بالتعامل مع الأوضاع فى مصر، ذلك كله يشير إلى أمرين أولهما التشاؤم والهلع الذى أصاب النخبة بقيام الثورة وغياب الرئيس السابق (الكنز الاستراتيجى). الأمر الثانى هو الحذر الشديد من جانب نتنياهو الذى منع الوزراء من التعليق على ما يجرى فى مصر حفاظا على «شعرة معاوية» مع نظامها الجديد. كنت قد نشرت فى 22 فبراير الماضى، مقالة تحت عنوان «ماذا يدبِّرون للنظام الجديد؟» قلت فيها ما خلاصته أنه من الطبيعى ان تكون الأحداث فى مصر بعد الثورة وقبلها أيضا محل رصد واهتمام، بوجه أخص من جانب الدوائر الأمريكية والإسرائيلية. ليس محبة فى المصريين ولا إعجابا بسواد عيون المصريات، ولكن لأنهم يدركون جيدا أن أى تغيير فى مصر لابد أن يكون له صداه القوى فى العالم العربى، الأمر الذى يعنى الكثير بالنسبة لهؤلاء. لأن العالم العربى يترجم فى النظر الغربى إلى عنوانين رئيسيين هما النفط وإسرائيل، فضلا عن أنه سوق لترويج البضائع وإنعاش تجارة السلاح. قلت أيضا إن الأمريكيين والإسرائيليين لن يقفوا متفرجين على الحاصل فى مصر، ولكن من الطبيعى أن يكونوا على صلة مباشرة بالحدث إن لم يصبحوا فى قلبه ومؤثرين على اتجاهاته. إضافة إلى أن ذلك استنتاج منطقى يخطر على بال أى مشتغل بالعمل العام، فقد أعدت التذكير بمحاضرة وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى الأسبق آفى دختر التى ألقاها فى شهر سبتمبر عام 2008 على الدارسين فى معهد أبحاث الأمن القومى الصهيونى، وفيها تحدث عن الترتيبات الإسرائيلية لمواجهة أى تحولات «كارثية» من وجهة نظرهم يمكن أن تحدث فى مصر. وأشار بوجه أخص إلى أمور خمسة هى: •إقامة شراكة مع القوى والفعاليات المؤثرة والمالكة لكل عناصر القوة والنفوذ، فى دوائر الطبقة الحاكمة ورجال الأعمال والنخب الإعلامية والسياسية. •إقامة شراكة أمنية مع أقوى جهازين لحماية الأمن الداخلى فى البلاد، هما جهاز أمن الدولة والمخابرات العامة. • تأهيل محطات استراتيجية داخل المدن الرئيسية المؤثرة على صنع القرار، متمثلة فى: القاهرةالإسكندريةالإسماعيليةالسويس بورسعيد. •الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز (الأمريكيين) فى النقاط الحساسة بالقاهرة (جاردن سيتى مصر الجديدة) إضافة إلى الجيزة. وبإمكان تلك القوة الانتشار خلال بضع ساعات والسيطرة على مراكز عصب الحياة العامة. •مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية فى قواعد داخل مصر، خصوصا فى الغردقةوالسويس ورأس بيناس. انطلقت هذه الترتيبات كما ذكر الوزير الأسبق من الاقتناع بضرورة تبنى استراتيجية استباقية حيال مصر من جانب الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وكان تقدير واشنطن والكلام للوزير الإسرائيلى أنها يجب أن تقيم فى مصر بعد وفاة عبدالناصر مباشرة وتولى السادات، مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية على غرار ما فعلته فى تركيا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. لست فى موقع يسمح لى بأن اتثبت من أن ما خطط له الإسرائيليون والأمريكيون حدث بالفعل كله أو بعضه، لكن الذى لاشك فيه أنه توفر لهم خلال الثلاثين سنة التى أعقبت توقيع اتفاقية السلام، الوقت الكافى والظرف المواتى لتحقيق ما يريدون. وعند الحد الأدنى فلابد أنهم حاولوا على الأقل زرع وتجنيد شبكة من المتعاونين الذين يمدونهم بما يمكنهم من تثبيت أقدامهم بما لا يسمح لمصر بأن تتراجع عما تورطت فيه، منذ وقعت معها معاهدة السلام. ولا يستقيم عقلا أن ينحصر الجهد الإسرائيلى فى الجاسوس الذى ألقى القبض عليه أخيرا (ايلان تشايم جرابيل)، أو غيره ممن ألقى القبض عليهم فى ثلاث قضايا تخابر أخرى خلال الأشهر الأربعة الماضية. إذ يظل هؤلاء مجرد نقطة فى بحر إذا وضعنا فى الاعتبار الأهمية القصوى التى توليها إسرائيل لعلاقتها مع مصر وخوفها من تنامى الوطنية المصرية.