"ربيع الشعوب العربية يدهم المنطقة دون مقدّمات وإرهاصات"، هكذا يصف العديد من المراقبين الأوضاع العربية، منذ أن فجّر الشاب محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر الثورة التونسيّة التي كانت بمثابة صافرة البداية لقطار الحرية، الذي أخذ يجوب البلدان العربية في منظر مهيب، طاويًا تحت سكّته حقبًا تاريخيّة حالكة السواد، مؤذنًا بتغيّر مجهول العواقب، ولا يمكن الجزم بنتائجه ومآلاته، ولكنْ ثمّة قدر مشترك لدى كافة المحلّلين مفاده أن ضحايا قطار الحرية من المستبدّين هم من ساهموا المساهمة الفعّالة باستبدادهم في انفجار برميل البارود الشعبي، الذي ظلّ يغلي عقودًا متطاولة. تردّدات دوائر تأثير ربيع الحريات لا بد أن يجد طريقه إلى عموم المنطقة العربية، والتأثير قد يكون مباشرًا -كما حدث في ليبيا وسوريا- وقد يكون غير مباشر لبلدان أخرى عبر سيل إعلامي وثقافي سيدهم المنطقة، ويعصف بالشباب العربي، الذي يشكل أغلبية في الدول العربية يُعلي من قيم الحرية والمشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية؛ فالرؤية الشاملة للمشهد العربي العام يمكن من خلالها الجزم بالحرج الكبير والترقّب الحذر الذي يضطرم داخل أروقة النخب السياسية، وهي تراقب هذا المشهد، وتضع الخطط المتنوعة والأساليب المتعدّدة للحيلولة دون قدوم قطار الحرية لبلدانها. إحدى أهم تلك الأساليب يتمثل عبر سعي النخب السياسية في استهلاك جهود النخب العلمية والإصلاحية في صراعات فكرية واجتماعية محدودة الأثر تمسك النظم بأطرافها، وترفع وتيرتها وتخفضها بحسب الحاجة، وثمة أسلوب آخر يتمثل في افتعال وجود خطر خارجي يهدّد وحدة هذا البلد أو ذلك، أو يسيء لتراثه ومقدّساته، والهدف من هذه الأساليب صناعة جو شعبي عام يستهلك قوّته وزخمه في تحصيل مكاسب ضئيلة سرعان ما يتبخر أثرها حالما تستفيق النظم من كابوس الحريات الذي يدهم المنطقة. عندما يريد المواطن العربي أن يميز بين فتات الحقوق، وثمار الحقوق في حديقة الحرية الغنّاء عليه أن يسأل نفسه عن طبيعة تلك الإصلاحات ذات الفرقعة الإعلامية في بلده، وأن يبحث عن أثرها الجوهري في البنية الحقوقية والسياسية في مجتمعه، إذا كان ثمّة تقدم فعلي وملموس نحو توسيع دور المجتمع في الحياة العامة، فليعلم أن ثمة إصلاحات حقيقية تستهدف تجنيب الأوطان الاحتقان، وتنزع فتيل انفجار بارود الغضب الشعبي في لحظة تاريخية قادمة... وأما إن كانت تلك الإصلاحات لا تعدو أن تكون إلاّ إيقادًا لمعارك فكرية متكررة تستثير حفيظة النخب العلمية والفكرية، وتستهلك طاقاتهم زمنًا، ثم تعيدهم للمربع الأول بعد ذلك، بالإضافة لحقن مسكنة في الجوانب المعيشية والاقتصادية التي ستقضمها أنياب أفاعي الفساد قبل أن تلتقمها أفواه الجوعى... فليعلم أن مجتمعه قد وضع أقدامه على سكة قطار الحريات... وأما المنتشون بحزم الإصلاحات الوقتية فإن لم يكونوا من أفاعي الفساد التي ستزيد غلّتها الربحيّة فهم قد سجلوا أسماءهم في نادي آكلي الفتات في زمن ربيع الحريات، ولو استوعب هؤلاء جسامة وحرج الأحداث العربية الراهنة لأدركوا أن الفرصة سانحة لحملة تطهير واسعة لمنظومة الفساد، ولكن أنّى يكون ذلك في مجتمعات تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، فهم أشتات في حقيقة انتمائهم لأوطانهم، وأشتات في بلورة رؤية إصلاحية لكل أطيافهم، وأشتات في مجابهة غول الفساد الذي ينهش أجسادهم صباح مساء، ويرسم لوحة البؤس والمجهول لمستقبل أبنائهم.