يعدُّ سَجْنُ من ارتكب جناية في حق نفسه أو في حق أسرته أو في حق الآخرين في إطار (الحق العام)، أو إيقاف حدث دفع به سلوكه المنحرف إلى مثل ذلك، يعدُّ ذلك فرصة لحمايته شخصيا، ولحماية المجتمع من تكرار تلك الجرائم وغوائل تلك الجنايات. هكذا يبدو الأمر، وهو كذلك في نصف الحالات أو أكثر بقليل، لكن الواقع في كثير من السجون العربية أن ذلك قد لا يحدث دائما؛ حين لا يكون التعامل مع السجين أو الحدث تعاملا استصلاحيا بالقدر الكافي، فقد يتعلم السجين مزيدا من الجرائم من مخالطته سجناء آخرين، وربما عقد معهم علاقات مستقبلية، وقد يكون قد تمرَّس في الإجرام حتى أصبح عادة له، لا يستطيع الفكاك منها، حيث تحولت لديه إلى ما يشبه الإدمان، خاصة إذا كان سيظل في أعين الناس مجرما بعد خروجه، تدفعه الأسر والمؤسسات والشركات بالأبواب؛ لأنه (خريج سجون) كما يقال!! وقد ذكر لي أحد العاملين في دور الأحداث أن أحد الشباب الأحداث كلما انتهت محكوميته وخرج عاد مرة أخرى وسرق، ثم يُعاد إلى محبسه، وحين سأله عن سبب ذلك، أجاب: فقط دعوا أبي يتوقف عن إطلاق كلمة (حرامي) عليَّ، وسأتوقف!! وعدد هؤلاء الموقوفين قد يتزايد مستقبلا في ظل تزايد العنف الأسري المنتج للعدوانيين في المجتمع، وقد كشفت إحصائية حديثة لمركز الأبحاث ومكافحة الجريمة بوزارة الداخلية، نشرها معظم صحفنا المحلية، عن ارتفاع حالات العنف الأسري في كافة مناطق المملكة خاصة الرياض ثم جدة، وهو ما يعني كذلك ارتفاع نسبة السجناء في المستقبل إلا أن يشاء الله تعالى. وصرح مدير عام السجون اللواء الدكتور علي بن حسين الحارثي في حديث لصحيفة عكاظ بأن سجناء الحق العام في المملكة يقدر عددهم ب «49» ألف سجين وسجينة، يمثلون العدد الكلي لنزلاء الإصلاحيات والسجون في المملكة، وذكر أن نحو عشرة آلاف منهم شملهم العفو الملكي الكريم ضمن الأوامر الملكية الأخيرة. والسؤال الذي تبادر إلى ذهني هو: كيف يمكن ألا يعود هؤلاء إلى السجون مرة أخرى، وقد أصبحت نسبة لا يستهان بها منهم تعود خلال فترة قصيرة، بتكرار الجريمة، أو بجريمة أخرى كسبها السجين ممن خالطهم، خلال فترة محكوميته؟! لقد عملت بعض السجون في المملكة على برامج لاستصلاح النزيل، وإتاحة الفرصة له لإكمال دراسته بإنشاء فصول إنترنت للتواصل مع 25 جامعة بالمملكة في إطار التعليم عن بعد، أو بالعمل في مصانع داخل السجون أو خارجها، ونجحت في برامج الخلوة الشرعية واليوم العائلي، وعفو حفظة القرآن الكريم، وسعت لإلغاء صحيفة السوابق لدمج السجين في المجتمع، واهتمت بالبحث عن كل وسيلة إصلاحية لإصلاح هذا الإنسان، بما يحفظ حقوقه وكرامته، ومع ذلك كله فلا تزال نسبة العائدين إلى السجون كبيرة!! إن ذلك يؤكد أننا في أمس الحاجة إلى مشروع واسع النطاق بسعة بلادنا المترامية الأطراف، يتعامل مع الجريمة في أساسها أولا، هناك في التعامل الأسري، ثم العمل على تحويل السجون إلى إصلاحيات شاملة، لا تعنى بإشغال السجين فقط بما ينفعه، وهو حل رائع، لكن لابد من التعامل الفردي مع كل سجين، من خلال تأهيل مستشارين دائمين في كل سجن، يسعون إلى اجتثاث جذور الرغبة في الجريمة في داخله، ويشعر معهم بالأمان، ويحس بأنهم إخوانه، ويرغبون في أن يكون له شأن يليق بإنسانيته فور خروجه من السجن، ومثل هذا البرنامج قد يبدو مكلفا مبدئيا، لكنه سيوفر الأمن العام في المستقبل، ويوفر الحياة الكريمة للطليق وأسرته التي عانت كثيرا وهو محجوز.