الحضارة حسب (ويل ديورانت) في كتابه (دروس التاريخ) هي نسيج معقد من العلاقات والبنى الاقتصادية والدينية والثقافية صعب بناؤها سهل تدميرها.. وكتب سفره العظيم في تسطير هذه الحضارة في 42 مجلدا بعنوان قصة الحضارة.. أما جون آرنولد توينبي فقد كتب 12 مجلدا خلال نصف قرن بعنوان دراسة التاريخ يحاول كشف السر عن انبثاق الحضارات. ووصل الرجل إلى تحديد حوالي 28 حضارة، رفعها لاحقا إلى 32 حضارة، ماتت كلها باستثناء خمس، منها الحضارة الإسلامية. وحسب (مالك بن نبي) فإن الحضارة الإسلامية انتهت منذ أيام الموحدين؛ لتخرج إنسانا مسخا هو (إنسان ما بعد الموحدين) حسب تقسيماته، ويعتمد في هذا على (مقدمة ابن خلدون) بعبارته الشهيرة (وكأن لسان الكون نادى بالخمول فاستجاب). وهذه هي أزمة العالم العربي وسر الانفجارات غير المفسرة حاليا؟ وهذه الحضارات ال32 التي نشأت على وجه الأرض انبثقت من 600 مجتمع بدائي، حدد بدءها في أرض العراق ثم انتشارها وانسياحها في كل الأرض. وكان البدء قبل حوالي تسعة آلاف سنة، ولعل هذا يرتبط بقصة طوفان نوح الذي يمثل فترة ما قبل التاريخ، فالتاريخ مرتبط بالتأريخ أي (الكتابة) أو بتعبير القرآن (صحف إبراهيم وموسى) فإبراهيم أصبح له أربعة آلاف سنة وموسى جاء في الألف الثانية قبل الميلاد بعد إبراهيم. أما نوح فهو يعود إلى مرحلة ما قبل الكتابة حوالي سبعة آلاف سنة، مقابل آدم انثروبولوجيا قبل 200 ألف سنة ربما مع ظهور الإنسان العاقل العاقل (هوموسابينس سابينس). وحسب توينبي عن نشأة الحضارة أنها ولدت وقفزت البشرية من مرحلة المجتمع البدائي بفعل (التحدي المناسب). وحسب عالم النفس هدفيلد فهو يرى أن ما يثير العين النظر، والسمع الصوت واللحن، والذوق الطعم، وما يثير الروح هو المثال (المثل الأعلى) ويسمى في البدن الصحة والروح القداسة والنفس الاكتمال والحضارة الذروة. أما (مالك بن نبي) فهو يقوم بتركيبة وخلطة لفهم الحضارة فيفككها إلى عناصرها الأولية الثلاثة: التراب والوقت والإنسان وأن ما يركِّب الحضارة هو عامل نوعي كما في اتحاد ذرتي هيدروجين مع ذرة أكسجين بشرارة كهرباء فيتولد جزيء الماء؛ كذلك الحضارة ولله المثل الأعلى، تولد بفعل العامل الروحي بكلمة أدق الدين أو عنصر المثال (الأمثل الأعلى القداسة) أما (شبنجلر) وهو فيلسوف ألماني فيرى أن كل حضارة شجرة قائمة بذاتها لا تخضع لتفسير بل هي أقرب لولادة روح عظيمة، وبالتالي فنهايتها هي في جدليتها الداخلية، حين تتحول من الروح البدائية إلى المدنية فينتهي دورها وتتخشب ويذوي نسغها الداخلي فتموت. ويذهب (توينبي) في تفسيره إلى نهاية الحضارة أنها تأتي من داخلها بالانتحار الداخلي أكثر من الهجوم الخارجي أو القصور التقني أو العامل الكوني، وإن كانت هناك تفسيرات لهلاك بعض الحضارات في عنصر الجفاف كما أظهرت الدراسات الحديثة عن هلاك حضارات المايا والازتيك والتيكليتون. وهذا يقول إن العناصر الداخلية هي جوهر الانهيار كما يقوله توينبي في الانتحار الداخلي، أو بتعبير بن نبي انفلات الغرائز مقابل تبخر الروح في دورة الحضارة التي تمشي بثلاث مراحل من الروح إلى العقل إلى الغريزة.. وحسب توينبي فإن الحضارة تنهار مع تحول الأقلية المبدعة التي كانت تسوق الأكثرية خلفها بمزمار الراعي إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالسوط والرعب. وحسب توينبي أن انبثاق الحضارات مختلف حسب اختلاف التحدي المناسب من التربة والبيئة والمستنقعات والهجوم الخارجي ولكن النهاية تكون متشابهة وهي تذكر باختلاف ألوان الشعر مع بداية الحياة وابيضاضها في النهاية للجميع عسلي أم خرنوبي أشهل أم أسود. والله وارث الأرض ومن عليها..