يخطئ من يظن أن الحديث عن الفكر هو نوعٌ من الترف في الظرف العربي الراهن. يخطئ من يرفض الاعتراف بأن (أصل) كل مشكلة كان يكمن في الفكر، وأن الفكر هو نفسه مكمن الحلّ لجميع المشكلات. يظلم نفسه وشعبه وأمته وبلاده كل من ينكر بأننا وصلنا إلى هذا الواقع بسبب الفكر، وأن التعامل مع الواقع المذكور بطريقة سليمة تحقق أحلام الشعوب لايمكن أن يحصل إلا من خلال الفكر. يخطئ من يعتقد أن التركيز يجب أن يكون الآن (فقط) على إنقاذ ثورةٍ هنا وتصحيح ثورة هناك وإكمال ثورةٍ هنالك. بل إننا نزعم أن كل شيء يتعلق بهذه القضايا يحتاج أول مايحتاج وأكثر مايحتاج إلى الفكر والدراسة والتحليل. ثمة مقولةٌ مشهورة تؤكد بأن مراحل مابعد الثورة هي أصعب بكثير من الثورة نفسها. يؤكد التاريخُ هذه المقولة، ويؤكدها بشدة الواقع الراهن. لننظر بكل شفافية إلى ماجرى ويجري في كل بقاع الثورة في الوطن العربي وسنرى مصداق المقولة المذكورة، وكيف تفرض نفسها في كل مجال وعلى أكثر من مستوى. مرةً أخرى، لنخرج من حصار الثنائيات الخانق. فمن يعمل للثورة يعمل لها دون أن ينتظر رأياً في مقال أو تصريحاً في منبرٍ إعلامي. والحديث عن ثورة فكرية هو حديثٌ الآن فيما يمكن أن يسمى (تجاوزاً) بالفريضة الغائبة. سيما وأن انشغالاً كاسحاً بالشأن السياسي البحت، بمعانيه ودلالاته التقليدية، سيكون سمة الواقع العربي في هذه المرحلة. وستنتج عن هذا الانشغال مفارقة تاريخية خطيرة، حيث تزهد أمة العرب عن الشأن الفكري في الوقت الذي تكون في أمسّ الحاجة إليه. سيمثل هذا تحدياً كبيراً من جانب، لكنه سيكون فرصةً من جانبٍ آخر لمن وضع نفسه على هذه الثغرة وأمضى فيها حياته، أفراداً كان هؤلاء أو مؤسسات. فبينما عشرات الملايين من العرب ومئات الملايين من المسلمين مشغولون بمراقبة ماجرى ويجري وسيجري، يجب على قلةٍ في هذه الأمة أن تسخّر كل طاقاتها لنعرف من خلال جهدها ماذا جرى وماذا يجري وماذا سيجري، بحدٍ أدنى من الدقة البحثية والمنهجية التي تليق بالظرف الذي نعيشه جميعاً. لايجوز أن نتعامل بكل هذه العفوية مع النقلة التاريخية الخطيرة التي مرّت وتمر بها أمة العرب منذ بداية هذا العام دون أن يتنبأ بها أحد. كيف جرى ماجرى ولماذا؟ وإلى أين نسير من هنا؟ وماذا يحمل لنا المستقبل؟ هل لايزال للعرب خيارات مختلفة؟ وماهي تلك الخيارات؟ وكيف يمكن صياغتها؟ وكيف يمكن تجاوز أخطاء الماضي وخطاياه الكبيرة؟ وأين تكمن التحديات الحقيقية؟ أسئلةٌ ستتولد عنها أسئلةٌ أكثر مما نتصور، وكلها يحتاج إلى إجابات علمية منهجية مدروسة. لاينفعنا في شيء أن نتوقع الحصول على إجابات من خلال أعمدةٍ ومقالات رأي، أو مقابلات عابرة وسريعة في منابر الإعلام الجماهيري. فلكل ساحةٍ في الحياة البشرية طبيعتها الخاصة ودورها المحدد، والساحة المذكورة مُشبعةٌ الآن بكل مايمكن توقعه من رؤى وطروحات تلهث وهي تحاول أن تلاحق اللحظة الراهنة، ويهدف كلٌ منها لتحقيق هدفٍ عاجل، وهي أهدافٌ قد يكون بعضها متضارباً إلى حدٍ كبير.. وهذه عمليةٌ يمكن أن تزرع الفوضى وتشتت التفكير وتملأ عقل العربي بأسئلةٍ ليس لها إجابات، وأوهامٍ ليس لها رصيد، وحيرةٍ ليس منها مخرج. لابد إذاً، للبعض على الأقل، أن يباشر بجدّيةٍالعمل في ساحةٍ أخرى. ساحة الفكر والدراسة والتحليل العلمي المنهجي الأكاديمي. جاء أوان علماء الاجتماع والسياسة والتربية والاقتصاد ودقّت ساعة العمل بالنسبة إليهم. لاعذر لهؤلاء بعد اليوم. فالواقع العربي الراهن يفرض على الجميع أن يسمح لهم بالعمل والعطاء والإنتاج. نحتاج اليوم إلى أجندات بحثية جديدة، نحتاج إلى عملٍ مؤسسي علميٍ منظّم فعال يُلهم حركة الواقع ويجيب على أسئلته الأساسية ويرسم ملامح الممارسات العملية فيه، ويعمل على ترشيد مسيرة ورؤية العاملين على مختلف المستويات. وسيساعد على تحقيق هذا الهدف، إذا تمّ التعامل مع الموضوع بحكمةٍ وإبداع، اتساعُ شرائح الطاقات التي يمكن توظيفها في هذا الواقع الجديد. لقد تحررت على سبيل المثال مؤسستان علميتان من أهمّ مؤسسات الأمة هما الأزهر والزيتونة، ويمكن أن يترتب على هذا خروج آلاف المتخصصين الشرعيين من القماقم التي كانت تعيش فيها فكرياً ونفسياً وعملياً بسبب الحصار الرسمي السابق لهذه المؤسسات، وعودة الحيوية العلمية والبحثية إليها منذ الآن على الصعيدين الفردي والمؤسسي. نستخدم هذا المثال تحديداً لأن الواقع الراهن بجميع معطياته سيفتح الباب مشرعاً بشكلٍ هائل لكل ماله علاقة بالمراجعات في الفكر الإسلامي. فالمكوِّن الإسلامي سيبقى عنصراً أساسياً في عملية صياغة الهوية وصناعة الواقع في المرحلة القادمة، لكن تعدد التوجهات والتيارات في الأمة سيفرض عملية تدافع ثقافي وعلمي ضخمة تتعلق بماهية وطبيعة وملامح (الإسلام) الذي ستقبله الجماهير. ليس من العبث أو المصادفة أن (الجُمع) و (الجوامع) كانت ولاتزال عنصراً أساسياً مشتركاً في جميع الثورات العربية. لايعني هذا أبداً أن (المتدينين) أشعلوا تلك الثورات أو قادوها، فالواقع يرفض هذا المنطق بكل بساطة، كما أن الحديث عن العنصر المذكور لايتناقض بالضرورة مع الطبيعة (المدنية) للثورات وللأنظمة السياسية التي تهدف إلى الوصول إليها. لكنه يعني أن ثمة علاقةً متجذرة بين الدين والحياة بكل أشكالها لايمكن الهروب منها لدى كل الشعوب العربية. وهي علاقةٌ لاينبغي فقط دراسة طبيعتها، وإنما توظيفها بشكلٍ ثوري للمساهمة في خلق واقعٍ عربي جديد أفضل في جميع المجالات.