عادل الطريفي *نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية هي مرحلة فوضوية ولا شك، حيث تنتشر عشرات الاحتجاجات والمظاهرات الصاخبة التي تطالب بإسقاط النظام في عدد من الدول في الشرق الأوسط. بعض هذه المظاهرات كان متفهما ضد قادة أمضوا عقودا سوداء في الحكم. أما البعض الآخر من تلك المظاهرات فهو يتحرك بدوافع مختلفة - ومختلطة - بعضها آيديولوجي، أو طائفي، أو فئوي، والنتيجة أن حمى «الثورة» قد اجتاحت الكل بحيث بات صعبا التمييز بينها، وبحيث باتت جميعها ترفع شعارا واحدا ألا وهو «تغيير النظام» عبر المظاهرات، والعصيان المدني. ليست هناك حاجة إلى التدليل على سلبيات النظم العربية، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها تلك الدول، وأبرزها الاستئثار بالسلطة مدى الحياة، ولكن ما نشهده اليوم هو حالة من الفوضى التي لا ضابط ولا ضامن لها. البعض يجادل بأن ما يحدث هو «ثورة ديمقراطية» تمت عبر الاحتجاجات السلمية، وأنها معنية بقيم ومبادئ مثل «الحرية»، و«الديمقراطية»، و«حقوق الإنسان». بيد أن ثمة إشكالات حقيقية تتعلق بما حدث؛ أبرزها أن الديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان.. هي مفاهيم، وتطبيقات ليبرالية غربية، وما نعرفه أن ثمة جدلا كبيرا في تفسير أو تعريف هذه المفاهيم وتطبيقاتها في المنطقة العربية. فهل تم تجاوز تلك الاختلافات بعد ثورة الشباب؟ أو هل سيتم تجاوز ذلك مستقبلا؟ هذا سؤال قد لا نعرف الإجابة عنه إلا بعد مرور سنوات. اللافت في ما يحدث هو موقف الإدارة الأميركية المضطرب أمام زلزال الثورات في المنطقة، فبعد موقف متردد قبيل هروب الرئيس بن علي اتخذ الرئيس أوباما لهجة صارمة بتوجيه الأمر إلى نظام الرئيس السابق حسني مبارك بأن يرحل الآن، حيث قال المتحدث باسم البيت الأبيض: «الآن تعني الآن.. وليست سبتمبر (أيلول)». الإدارة الأميركية كررت موقفا متحفظا في ما يخص ليبيا، واليمن، والبحرين محاولة الإمساك بالعصا من الوسط، فهي تطلق تصريحات متشددة ضد تلك الأنظمة، وفي الوقت ذاته تتحدث إليها عبر الهاتف معبرة عن حرص الولاياتالمتحدة على المصالح المشتركة. هناك تناقض تام في تصرفات هذه الإدارة، ففي الوقت الذي تطالب فيه الرئيس مبارك بالتنحي الفوري تراها تقوم بالضغط على الرئيس محمود عباس لسحب مشروع إدانة لاستمرار الاستيطان الإسرائيلي أيدته قرابة 130 دولة، ولقد كان رد عباس صريحا حين قال لوزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، بأنه غير مستعد لقرار قد «يثير الشارع الفلسطيني» مهما بلغ غضب الإدارة الأميركية لأن الشارع أكثر خطورة. هذا ما لم تدركه الإدارة الأميركية بعد! حين بدأت هذه الاحتجاجات كان أمام الإدارة ثلاثة خيارات: إما إعلان الحياد والقبول بالنتائج - كما دعا لذلك كيسنجر - أو الوقوف إلى جانب هذا النظام دون ذاك، أو محاولة الإمساك بالعصا من الوسط عبر التلويح بالوقوف إلى جانب المظاهرات مع الإبقاء على قناة الاتصال مفتوحة مع النظام المهدد. لقد قيل لأوباما بأنه لا يسعه الوقوف إلى الجانب الخاسر في التاريخ، ولكن ما لا تدركه الإدارة هو أنه ليس لها أي جانب في هذا التاريخ. الحقيقة التي يجب أن تعيها الإدارة الأميركية هي أن أميركا لا تستطيع القيام بأي شيء بعد الآن، قوتها قد انكشفت بشكل مفضوح حين سقط أحد أبرز حلفائها دون أن تتمكن من فعل شيء، بل لقد شاركت في رجمه. البعض في الإدارة يجادل بأن ما يحدث هو عبارة عن صيرورة تاريخية من «التدمير الخلاق»، وأن الإدارة يجب أن تقبل بنتائج ما حدث. حسنا، هذا الموقف بعينه كان موقف «المحافظين الجدد» الذين كانوا يجادلون بأن الطريقة الوحيدة للتغيير هي «تغيير النظام» بالكامل (regime change)، وهذا ما أشارت إليه كوندوليزا رايس في مقالتها الأخيرة؛ حيث زايدت على إدارة الرئيس أوباما، مدعية أن تلك السياسة هي بالضبط ما كانت تسعى إليه إدارة الرئيس بوش الابن: «تعلم الولاياتالمتحدة أن الديمقراطية ستكون عملية طويلة، غير مرتبة، ويسودها الاضطراب، وحتى الفوضى» (ال«واشنطن بوست»، 16 فبراير/ شباط). إن محاولة رايس تصوير ما تقوم به الإدارة الأميركية بوصفه وقوفا إلى جانب «الحرية» فيه تسطيح لأبسط آليات التفكير. رايس، وغيرها من المعلقين الأميركيين - بما في ذلك الإدارة - متحمسون لما يجري بوصفه مرحلة «ثورية» ترفع شعار «الحرية»، ولكن أليسوا يدركون بأن جل «الثورات» في التاريخ إنما خرج تحت شعار «الحرية» ضد النظام القائم، ولكن السؤال الحيوي: الحرية بأي معنى؟ وبأي ثمن؟ مشكلة الرئيس أوباما أنه طرح نفسه كرئيس «واقعي» حين قال في خطاب تنصيبه إن أميركا لا تريد أن تفرض أي نوع من أنواع الحكم، وإن لكل شعب طريقته. بيد أن سياسته اليوم تتفوق على كل جهد بذله «المحافظون الجدد» لتحقيق مبدأ «التدمير الخلاق»، وهو - للمفارقة - مبدأ ظهر لأول مرة في كتابات ماركس وإنجلز عن الآثار السيئة لليبرالية الرأسمالية في «المانيفستو الشيوعي» (1848). حين تصاعدت المظاهرات والاضرابات المناهضة للشاه، حاولت إدارة الرئيس كارتر أن تغري الجيش الإيراني بالانقلاب - في رحلة الجنرال هايزر المعروفة - ولكنها فشلت، ثم رحبت بعد ذلك بثورة «الحرية»، وواصلت البقاء ضد نصيحة سفيرها الذي حذر من تمادى نفوذ الخميني وتياره على مفاصل الدولة، وبعدها بأشهر تم احتلال السفارة الأميركية لمدة 444 يوما كانت مصدر إذلال للرئيس الأميركي. لقد تكرر السيناريو اليوم في الشرق الأوسط، وسيذهب عشرات المثقفين والصحافيين الأميركيين والغربيين والعرب - تماما كما في 1979- للاحتفال بالثورة في الشرق الأوسط التي حررت الناس من الديكتاتورية، ولكن أمراض المنطقة لن تزول بالضرورة بزوال بعض الأنظمة، «فخلف كل قيصر (يهرب).. قيصر جديد»! الإدارة الأميركية تخلت عن واقعيتها، وباتت تتغنى بالمثاليات السامية، هذا أمر مشروع، فلا يعقل أن تساند أميركا رجلا مثل العقيد معمر القذافي، ولكن على الإدارة - أيضا - أن تكون مستعدة لمواجهة فسيفساء الواقع الطائفي، والديني، والاجتماعي، والاقتصادي، الذي أضافت إليه القلاقل الأخيرة المزيد من التعقيد باحتمال ظهور حكومات شعبوية، ومهددة بحروب طائفية وأهلية. أوباما يظن بأن «التدمير الخلاق» بوسعه أن يتم دون أن يدفع ثمنه، ولكن عاجلا أم آجلا سنرى النتيجة. الإدارة أمام خيار شمشون، فهي حين تقف مع الثورات يجب أن تدرك بأن مصالحها هي الأخرى معرضة للانهيار. لقد هلل كارتر لثورات الحرية، ولكن أسقطته أسعار النفط، وسيدرك أوباما أن الأمن والاستقرار والتنمية في هذا الجزء من العالم ليست بأقل أهمية من حرية التعبير، وأن شعوب المنطقة ليست بالضرورة ملزمة بمراعاة المصالح الأميركية مكافأة على أسبوعين من دعم «الحرية»! يقول كينيث والتز، عالم السياسة الأميركي الشهير: «الكثير من الناس لا يحبون الواقعيين.. ولكنهم - أي الواقعيين - يواجهون العالم كما هو. أما بقية الناس فيريدون أن يكون العالم أجمل، والبشر أفضل».