ليبيا تجاور ثورتين في تونس ومصر، وكان الرئيس القذافي يؤيد كل انقلاب شيوعي أو وطني، يرفع شعاراً مضاداً للامبريالية وأعوانها، وسمى ليبيا جماهيرية، وبايعه الزعماء الأفارقة بملك الملوك أو «شاهنشاه» القارة السوداء، وهناك ممارسات أدت إلى ضرب مواقع في بلده، ثم القبول بدفع تعويضات هائلة عن «لوكربي» ثم سلّم مشروعه النووي ليتم تفكيكه ونقله للخارج.. طردَ الفلسطينيين ومنع دخول المصريين، وأثار نزاعات طويلة مع دول عربية وتشاد وحتى الإيرلنديين نالتهم بركاته بدعم مادي وعسكري، وهذا التبديد للثروات جرى بنوازع تغاير منطق العقل، بينما مداخيل البلد، من أفضل نفط في العالم، عجزت عن أن تؤمن أبسط وسائل العيش للشعب الليبي الصغير نسبياً في عدد السكان، والكبير بمداخيله وثرواته.. انعكاس ما حدث في البلديْن المجاورين، نقل العدوى للشارع الليبي، وهناك من أثار أن القتلى من المواطنين حدث بواسطة مرتزقة أفارقة، وهي حالة خطيرة، إذا ما زُج بالبلد بواسطة عناصر دخيلة، بل إن ذلك يزعزع الثقة حتى بمن خرجوا مؤيدين للسلطة، لأن دخول عنصر أجنبي أياً كانت هويته، يعني أن التطورات ستأخذ مساراً آخر، وقد جربت دول أوروبية الاستعانة بالمرتزقة في حروبها، لكنهم تحولوا إلى عبء سياسي وأمني عليها .. ليبيا ليست خارج المدار الذي تفجّر في المنطقة، لأن من كسر عصا الخوف وخرج يطالب بحقوق متساوية مع الشعوب الأخرى، لم يعد يهمه سطوة الجيش والبوليس إذا كانت ظاهرة القمع هي التي حولت حكومات العسكر إلى ما هو أسوأ من الاستعمار، والغريب أن ليبيا الثورية هي التي تحارب ما كانت تضعه في صلب سياساتها وأهدافها من الثورات الشعبية الحديثة.. نحن ضد الفوضى أو قتل أبناء الوطن، وإشاعة التطرف داخل المجتمع الواحد، لكن السؤال هو مَن صنع مبررات هذه الثورات وأقام أمام الشعب المتاريس، ونظم الجيش السري الذي يحمي النظام؟! الحكومات الانقلابية ظلت على اعتقاد تام في نزعتها الثورية، أو الوسطية، أو خلق تحالفات مع قوى الخارج، قديماً مع الاتحاد السوفياتي، وحاضراً مع إمبرياليين وأنصاف ثوريين، وهذه الازدواجية في المواقف، لا يمكن أن تغيب عن المواطن المؤهل، أو حتى الأمي الذي يواجه الغبن في حياته وسلبه مفهوم مواطنته.. الثورة بالمفاهيم الكلاسيكية سقطت مع سقوط المعسكر الشيوعي، لأن مبرراتها انتهت وتأكد فشل طروحاتها وإدارتها، والقذافي وحده من لا يزال يركب الموجة، ولا ندري كيف وافق أن يجمع بين اسميْ القائد الثائر، وملك الملوك للأفارقة، وهو الذي حارب كل شيء ينتمي للملكية؟! وهي حالة اضطراب غير مسبوقة، لكن بفقدان ركائز اجتماعية تقوم على المحاسبة والمحاكمة في ليبيا كشأن القيادات العسكرية المماثلة، أصبح الطريق مغلقاً على انقلاب مضاد، مما جعل الشعب يأخذ دوره وفق منطق جيل التغيير الجديد في رموزه وشخصياته وشبابه، وليبيا لن تكون في مناعة مما جرى في محيطها وخارجه.. لقد ظل من ينادي، ويطالب بإصلاحات جذرية العدو الأول للحكومات العسكرية لكن المعادلة تغيرت فلم يعد الماضي أسلوباً يصلح لإدارة الحاضر، لأن الساعة انقلب عقرباها فغيّرت التوقيت المحلي والعالمي..