صدى جازان الإعلامي يشارك في فعالية مربط مهاب    خادم الحرمين وولي العهد يهنئان رئيس نيبال بذكرى يوم الدستور لبلاده    80 فنانًا يضيئون سماء الأحساء بالفن التشكيلي    محافظ عنيزة يرعى حفل احتفال النجمة بالصعود    إمام المسجد النبوي: القرآن أعظم الكتب وأكملها ومعجزته باقية إلى يوم القيامة    قوميز: نؤمن بأنفسنا وهدفنا الفوز رغم الغيابات    دوري يلو.. العلا يعزز الصدارة.. وجدة يحسم الديربي    محترف الأهلي يبدي جاهزيته للقاء الهلال    محافظ بيشة يدشن جمعية التنمية الزراعية "باسقات"    جدة تغني حب وحماس في ليلة مروان خوري وآدم ومحمد شاكر    في النظرية الأدبية.. بين جابر عصفور وعبدالله الغذامي    الذهب يواصل مكاسبه للأسبوع الخامس بدعم خفض الفائدة الأمريكية    الجهني: أوصي المسلمين بتقوى الله والاعتصام بالكتاب والسنة    جمعية نمو للتوحد تحتفي باليوم الوطني ال95    جمعية حقوق الإنسان تنظّم دورة للإعلاميين حول تعزيز المبادئ الحقوقية    خطباء الجوامع: وحدة الصف وحفظ الأمن من أعظم نعم الله على المملكة    جلسات منتدى حوار الأمن والتاريخ.. إرث راسخ ورؤية مستدامة للأمن والتنمية    اختتام ورشة عمل بناء العمل الفني بالمدينة المنورة    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع مجلس هيئة تطوير المنطقة    رياح وامطار على اجزاء من مناطق المملكة    أوكرانيا تعلن خططا لنشر مئات المسيرات    أبراج مدن المملكة تتوشح بعلمي المملكة وباكستان    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    نائب أمير تبوك يدشن حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    «بيئة مكة» تدرس إنشاء سدود حماية جديدة في شمال جدة    "سدايا" تطلق معسكر إدارة الأنظمة السحابية    "مسار كدانة"... وجهة ترفيهية مستدامة لسكان مكة المكرمة وزوارها    أمسية شعرية وطنية للأمير سعد آل سعود تدشن احتفالات الهيئة الملكية بينبع باليوم الوطني السعودي ال 95    بوتين: أكثر من 700 ألف جندي روسي يقاتلون حاليا في أوكرانيا    ثنائية راشفورد تنقذ برشلونة من فخ نيوكاسل بدوري أبطال أوروبا    ارتفاع حصيلة القتلى جراء انفجار شاحنة صهريج غاز في المكسيك إلى 21    هالاند يسجل هدفا تاريخيا في انتصار سيتي على نابولي بدوري أبطال أوروبا    الأمير سعود بن طلال يرعى زواج 200 شاب وفتاة في الأحساء    مجلس الدفاع الخليجي المشترك يقرر تحديث الخطط الدفاعية وتبادل المعلومات الاستخبارية    أمير الرياض يستقبل أعضاء هيئة كبار العلماء    ما مدى قوة الجيش السعودي بعد توقيع محمد بن سلمان اتفاق دفاع مع باكستا    نجاح عملية تفتيت تصلب الشرايين    أمير منطقة المدينة المنورة يرعى حفل تكريم الفائزين بجائزة جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز للتميز    العيسى والصباح يزفان عبدالحميد    ضبط 83 كجم قات و61 كجم حشيش    بدد أموال والده في «لعبة».. وانتحر    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    فرنسا: حملة تدميرية جائرة    «البلديات» تصدر اشتراطات مراكز«التشليح»    "سترونج إندبندنت وومن"    أمير الباحة يدشن مشاريع صناعية ولوجستية    قطر: حرب إبادة جماعية    زراعة «سن في عين» رجل تعيد له البصر    هيثم عباس يحصل على الزمالة    سارعي للمجد والعلياء    29% ارتفاعا بأسعار البرسيم    الخدمات الصحية في وزارة الدفاع تحصد وسام التميز بجودة البيانات    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    وجهة نظر في فلاتر التواصل    خطى ثابتة لمستقبل واعد    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة السلمية" وإشكالية التكييف الفقهي

قبل بِضعة أشهر طالَبَ بعْضُ المصريِّين من غيْر المسلمين مع بعض العلمانيِّين بِتَغيير المادَّة الثَّانية من الدُّستور المصريِّ الحالي؛ بِحَيث تُحذف منها عبارةُ: "الإسلام دين الدَّولة"!
هذه الواقعة لا يُمْكن تَجاهلُها في ظلِّ الحديث عن تكييف الثَّورة الشعبيَّة الْمِصرية الحاليَّة في النَّظر الشرعيِّ حالاً ومآلاً؛ إذْ إنَّ مصطلح الثَّورة من المصطلحات التي لَها اتِّصال بالدُّستور وجودًا وإلغاءً وتغييرًا؛ ولذلك فإنَّ الثورات الشعبية كما تكون فُرَصَ مكاسب، يُمْكن أن تكون منشأَ مَخاطر، وهنا تتعدَّد الأحكام المتفرِّعة بتعدُّد عِلَلها، والتابعة بتعدُّد ما تتبعه؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ مصطلح (الثورة الشعبيَّة السِّلمية) يتطلَّب تكييفًا مختلفًا عن غيرها من وسائل التَّعبير عن الرأي المعروفة عالَميًّا؛ فهي في الحقيقة من نوازِل هذا العصر التي يَعْسر إلْحاقُها بِحُكم بِعَينه من الأحكام الفقهيَّة المعتادة.
1- وإنَّ من مُشْكلات بعض الإعلام المعاصِر: تحميل بعض الخطاب الإسلامي ما لا يحتمل، وتتبع زلل بعض قياداته مهما كان اجتهادًا مقبولاً؛ وبغضِّ النظر عن سببه - جهلاً كان أو تشفِّيًا أو تشنيعًا - فإنَّ ثَمَّة إشكالاتٍ حقيقيةً ينبغي التنبُّه لَها أيضًا، منها: ما يتعلَّق بفهم الْخِطاب الشرعي لعموم النَّاس، كطريقة صِياغة الْخِطاب؛ اتِّكالاً على فَهْم الفقيه ومُجتمعه، ومن أمثلته: خلُوُّ الصياغة الفقهية أحيانًا من بعض القيود المؤثِّرة؛ اعتمادًا على ظهورها لدى الفقيه، بينما هي خفيَّة بالنِّسبة لغيره، كما ينبِّه العلاَّمةُ ابن عابدين - رحمه الله.
وهذا أمْرٌ ظاهر في هذا العصر؛ إذْ تكون محلَّ سوء فَهْم أو إساءة فَهم، ولا سيَّما في حال صناعة الخبَر في صياغته، وكذا الشأن في حال ورود البيان في سياق بيان الْمَخاطر، لا قصد بيان الحكم المحرَّر في التعامل مع الواقعة، ومن أمثلة ذلك ما تداولَتْه وسائل الإعلام عن بَعْض مشايِخِنا الفُضَلاء، وتحميل كلامه ما لا يَحْتمله في واقع الحال وقصد المتكلِّم؛ فقد وجدْنا لِهَؤلاء الشُّيوخ تصريحاتٍ تضمَّنت بيانَ حكم التَّعامل مع الواقعة من خلال الْمُطالبة بتحقيق المقاصد الشرعية للثَّائرين على استبداده مثلاً، غير أنَّ الإعلام قد يتوقَّف أحيانًا عند إشهار بيانٍ دُون بيان، أو حُكْمٍ دون قيود؛ لأسبابٍ قد تكون بريئةً، وقد لا تكون.
2- وعلى كلِّ حال، فإنَّ أهمَّ الإشكالات أيضًا ما يقع في التأصيل الشرعيِّ لبعض القضايا السياسية، ومن ذلك: إشكاليَّة التَّكييف الفقهي للمسألة عند الفقيه كما هي في واقع الأمر؛ وإشكاليَّةُ فقه التعامل معها في الواقع، بغضِّ النظر عن الحكم الأصليِّ لدَيْه.
ومثاله كما في العنوان: تكييف (الثَّورة الشعبية السِّلمية)، هل هي خروجٌ على الحاكم؟ أو هي مظاهراتٌ سِلمية؟ أو مظاهراتُ عُنْف؟ أو اعتصاماتُ احتجاج؟ أو هي شيءٌ آخر؟
ويتبيَّن الحكم من خلال النَّظر في الأوصاف الفقهية لكلِّ حالة، وهل المسألة مفردةٌ يُمْكن إلْحاقُها بنظيرٍ، أو تَخريجُها على حكم، أو هي مركَّبة تتطلَّب نظرًا مستقلاًّ، وحكمًا جديدًا؟ فلا يصِحُّ إطلاق الأوصاف جزافًا، ولا إلحاق المسائل المستجدَّة بغيرها تحكُّمًا.
ومَن يتأمَّلِ الثَّورات الشعبيَّة السِّلمية المعاصرة، ويُراجِعْ تاريخَ الثَّورات الشعبية عمومًا، وينظُرْ فيما كُتِب في العلوم السياسية بشأنِها، يَجِدْها أوسعَ شأنًا من الْمُظاهرات والاحتجاجات الأخرى، ويَجِدْ لَها سِماتٍ، وبينها وبين غيرها فروقًا تتمثَّل في نقاطٍ عديدة، ربَّما كان من أهَمِّها بالنسبة للفقيه ما يلي:
• أنَّ الثورة انتفاضةٌ شعبيَّة عامَّة:
لا تُمثِّل تيَّارًا بعينه، ولا تتطلَّب تصريحًا بوجودها، حتَّى لو بدأتْ بطريقةٍ مأذونٍ بِها قانونيًّا، فهي تشمل الْمُسلِم وغير المسلم، والرَّجل والمرأة، والصغير والكبير، و الغنِيَّ والفقير، وربما تَشْمل بعض المسؤولين أيضًا، ولا سيَّما في مراحلها المتقدمة.
• وأنَّها سِلميَّة لا عسكريَّة:
فلا سلاحَ فيها ولا شوكة، وقد رأينا في الثَّورة المصرية الحاليَّة كيف امتلأ ميدان التَّحرير بالقاهرة - مثلاً - وتحول إلى اجتماعٍ كبير للعوائل؛ ففيه الرِّجال والنِّساء، والشُّيوخ والأطفال، فرأينا فيه ابنَ الثَّمانين، كما رأينا فيه ذا الثَّلاثة الأشهُر!
وجاءت رمزيَّة السِّلمية فيه في صُوَر متعدِّدة، منها: إمضاءُ عقْدِ النِّكاح الشَّرعي فيه منقولاً على الْهَواء مباشرةً بين شابٍّ وشابَّة! إضافةً إلى ترحيب النَّاس بالْجَيش، وتعَهُّد الجيش بسلامتهم، واعترافه بشرعيَّة مَطالبِهم؛ وهي مهمَّةٌ في بيان مدى صحَّة إلحاقها بالخروج؛ فهل يُمْكِن أن تُوصَف ثورةٌ يَلْتزم الجيش بِحمايتها بأنَّها خروج؟!
• ومنها: أنَّها مفاجِئَة يعسر توقُّعها بدِقَّة، إن لم يكن غيرَ مُمْكن:
فهي تأتي على نَحْوٍ سريع، بحيث تكون أمرًا واقعًا؛ وقد ذكرْتُ من قبل في مقال "خاطرة من وحْي الثَّورة التونسية" أنَّ الثورات كالزَّلازل الخطيرة، لا يُمْكن التنبُّؤ بِها قبل وقوعِها في الغالب، كما لا يُغْنِي التَّحذيرُ منها، ولا يصحُّ الاكتفاء بالتفرج على آثارها، دون إنقاذٍ أو إسهامٍ في البناء.
وهذه النقطة مهمة جدًّا في التكييف الفقهي عند بيان الْحُكم، حتَّى مِمَّن لا يُجِيز بعْضَ أدوات الثَّورة؛ فمن المتقرِّر في قواعد الفقه وفِقْه الفتوى: التَّفريق بين حكم الشَّيء قبل وقوعه، وحكمه بعد الوقوع، فالتَّعامل مع الواقع قد لا يستوفي شروطَ بعض الأحكام النَّظرية، مِمَّا يَجعل الفقيه ينظر إلى المسألة، مع مراعاة الحكم من هذه الجهة.
وهذه النِّقاط مهمَّة من الناحية الفقهيَّة في جوانب عدَّة ينبغي ملاحظَتُها في فقه التَّعامل مع الواقعة، وإحسان توظيفها في تَحْقيق المصالح الشرعية، دون توقُّف عند أضرار أدْنَى منْزلة، ومن هذه الأحكام على سبيل المثال: حُكْم قبولِ مشاركةِ - أو الْمُشاركةِ مع - غيْرِ المسلمين، أو أصحاب الفِكْر المتأثِّر ببعض الأفكار غيْر الإسلامية، أو في ظلِّ وجود النِّساء المتبَرِّجات من مُسْلمات أو غير مسلمات، ومدى الإفادة من الحضور الْمُكثَّف لوسائل الإعلام المباشرة؛ الإسلاميَّة والأجنبية، والعربية والعجميَّة، وكذلك حكم الإفادة من هذا التجمُّع - الواقع - فيما يَخْدم الإسلام والمسلمين، دعَوِيًّا أو فكريًّا أو اجتماعيًّا مثلاً، وهو ما يُمْكن تصوُّره في مثل: تَصْحيح صورة الإسلام المشوَّهة لدى العالَم، وذلك بالمشاركة الإيجابيَّة في العمل السِّلمي الناضج، وإقامة شعائر الإسلام، كالصَّلاة جماعةً أمام الشاشات بِهَذا العدد الْهائل، وكذا التَّوعية العامَّة، ومدافعة اعتداءات المرتزقة الغاشمين (البلطجيَّة) على الناس؛ حفظًا للأنفس والأموال والأعراض، وتَجْهيز الموتى الذين سقَطوا بسبب أجهزة النِّظام الحاكم ومُرْتزقته، ومُعالَجة الجرحَى، وإطعام النَّاس، وإعانة النَّاس، وغيرها من المصالح المشروعة، ولا سيَّما في ظلِّ غياب الأجهزة الحكوميَّة المعنيَّة، أو مُمارستها لِما فيه إضرارٌ بالنَّاس، ووجود ما يشبه الفَراغ السياسيَّ، أو احتمال وجوده.
• ومن ذلك: أنَّ الثورات الشعبيَّة غرضها التغيير:
- لا مجرد التَّعبير - في النِّظام الحاكم، بإصلاحٍ إن كان قابلاً للإصلاح، أو بتغييرٍ أو إسقاطٍ، إذا ما كان النِّظام فاسدًا فاقدًا للثِّقة فيه؛ ولا تَهْدأ الثَّورة عادةً إلاَّ إذا تحقَّقتْ مطالِبُها، حتَّى لو أُقنِعت أو قُمِعَتْ في بدايتها، فإنَّها تبقى كامنةً لتثور في وقتٍ لاحق، فهي ليست مجرَّد مظاهراتٍ جماعيَّة أو نقابية أو نحوها، تَخْرج للتعبير عن مطالبها، لتعود بعد تعبيرها عمَّا تريد وإن لَم تتحقَّق مطالِبُها؛ بل هي عمليَّة يتمُّ من خلالها التغيير الجذريُّ لنظام الْحُكم، ويترتَّب عليه بالضَّرورة إلغاءُ الدُّستور، وهذه نقطةٌ مهمَّة جدًّا في التكييف الفقهي؛ وذلك من حيثُ النَّظرُ في النظام الحاكم وحكم وجوده، ومدَى شرعيَّتِه، ومدى المصلحة في الحفاظ عليه، أو في تعجيل زواله، وكذا الدستور إذا ما كان إسلاميًّا لا يجوز تغييره، أو علمانيًّا مُختلطًا يجب إصلاحه، أو غير إسلامي يجب تبديله بما لا يناقض الثَّقافة الإسلامية في المجتمعات المسلمة، إلى غير ذلك من الاعتبارات المهمة في الحكم.
وهنا ترِدُ مسألة حكم المبادرة الشرعيَّة في الإصلاح أو التأسيس الصَّحيح، بِمُختلِف أنواع الإسهام؛ استقلالاً في أحوال، واشتراكًا في أخرى، وهي اعتبارات مهمَّة لا ينفكُّ الحكم عنها.
• ومنها: أنَّ الثورة الشعبيَّة يقوم بِها الشعب وقياداتُه الشعبيَّة عادة:
فإن لم يكن، فيُشْترط في الثورة أن تكون معبِّرة عن إرادة الشعب، إذا ما قام بِها بعضُ قياداته؛ وذلك كله دون اشتراط قانونيَّتِها من عدمه، بل قد لا تَحْتمل التنسيق مع الحُكَّام أصلاً، ولا التَّحاوُر؛ بل ولا حتى التَّفاوض معهم أحيانًا، بِخلاف المظاهرات التي تبدأ عادةً وفْقَ قوانين تسمح بِها، وقد تحمل تراخيص لتنفيذها، بل قد تكون بإيعازٍ من الحاكم، أو برعايةِ الحزب الحاكم، ولا سيَّما حين يشعر بضغوطٍ أجنبية لا تتوافق مع سياساته أو آماله، وفي الثَّورة المصريَّة الحاليَّة سَمِعنا الاعترافَ بالثَّورة الشعبية رسميًّا من قِبَل قيادات النِّظام الحاكم، وهو اعترافٌ رسميٌّ، سواءٌ كان اعترافًا بالشرعيَّة، أو بالواقعيَّة.
وعليه؛ فإنَّ هذه الفروق وغيرها، تَجْعل (الثورة الشعبية السِّلمية) مسألةً مستقِلَّة بذاتِها، تقع على نحو معيَّن، ومن ثَمَّ لا ينبغي أن يُستدعَى في بيان حكمها فتاوى جزئيَّةٌ تتعلَّق ببعض أدواتِها التابعة، كالْمُظاهرة أو الاعتصام مثلاً.
وإذا ما انتقلنا إلى فقه التَّعامل مع الثَّورة، فسنجد أنَّنا أمام فقْهٍ آخَر، تَحْكمه جملةٌ من الأحكام؛ لِما لَها من امتداداتٍ متنوِّعة، ومسائِلَ متفرِّعة، تَجْعل المسألة مَحلَّ نظرٍ فقهي، مداره على جَلْب المصالح ودرْء المفاسد، مع اعتبار النَّظر في المآلات، وهو أمْرٌ يتطلَّب نظرًا آخَر يُوظِّف علومًا أخرى في فقه التعامل مع هذه الواقعة، كأدواتٍ وعلومِ آلةٍ للفقه السياسي، منها: جملة العلوم السياسية، التي تتطلب توظيفًا فقهيًّا شرعيًّا للفكر السياسي، والتنظيمات السياسيَّة، والعلاقات الدوليَّة، ومؤسَّسات المُجْتمع الشعبِيِّ وجماعات الضَّغط، وهي قضايا متشابكة، وأكثر النَّاس فقهًا لِهذه الأمور هم أَهْل الْحَلِّ والعَقْد من العلماء الشرعيِّين، والْخُبَراء القانونيِّين، والأساتذة المتخصِّصين، ورؤوس الناس في بلد الواقعة، كما شَهِدْنا من علماء مصر وقُضاتِها وخُبَرائها، وقياداتِها الشعبيَّة، وتبقى وظيفةُ غيْرِهم من أهل الإسلام مُكمِّلةً، في نَحْوِ إبداء نُصْحٍ أو مشورة.
وهنا ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ الْحُكم يبنى على نظَرٍ كلِّي؛ فلا يمكن الحكم على الثورة الشعبيَّة العارمة من خلال ما قد يَصْحبها من عُنفٍ عارض من أفراد لا يُمثِّلون مَجموعَ الثورة، ولا من خلال عنفٍ منظَّم مصدره بعض أجهزة الحكومة التي تريد التخلُّص منها.
وبِهذا يظهر أنَّ إشكالية التَّكْييف أحَدُ أهمِّ أسباب الخلاف الفقهي بين بعض العلماء في هذه النازلة.
وهو أمر يُدْرِكه كبارُ الفقهاء، ويَظْهر ذلك في فقه التَّعامل مع الثورة المصريَّة؛ وبه تُفَسَّر مُطالبةُ الرَّئيس المصريِّ بالتَّنحي من بعض من يَمْنع التَّظاهر من العلماء، سواءٌ كان منعه منعًا للمظاهرات عمومًا؛ تغليبًا لِجانب مفاسدها، أو لِما يعتقد من كونه جزءًا من خُطَّة تقسيم جديدةٍ للعالم العرَبِيِّ والإسلامي؛ وذلك إدراكًا منهم للفرق بين الحكم على أصل الشيء قبل وقوعه، وحكم التعامل معه بعد الوقوع.
كما يظهر أنَّ للإعلام أثرًا إيجابيًّا أو سلبيًّا في خدمة الفقه أو التأثير فيه نقلاً أو توظيفًا، حَسنًا كان أو سيِّئًا، وهو ما ينبغي على العلماء والدُّعاة ملاحظَتُه.
وأخيرًا، فهذه إشاراتٌ عابرة، قُصِد منها لفْتُ الانتباه إلى أهَمِّية فَهْمِ كلام أهل العلم وطريقتهم في الخطاب، وأهمِّية العناية بالْمَسائل على ما هي عليه، دون الاكتفاء باستدعاء أحكامِ مسائل أخرى ليست إلاَّ حكمًا بالنَّظر في الْجُزء، لا يُمْكن اختزال حُكْمِ الكُلِّ فيه، ولا تخريج حكم الواقعة على فتاوى عُلَماء أجلاَّء، جاءت في سياقات مُخْتلفة، كسياق بيان وسائل الدَّعوة، لا بيان فقه التَّعامل في حال وقوع الثَّورات الشعبية.
وفي ظلِّ الثَّورة العارمة، ينبغي أن يُدْرِك الثَّائرون أنَّ لَحْظة الانتصار قد تكون هي ذاتُها لَحظةَ الخطر الأكبر؛ إذْ هي مَحلٌّ للثِّقة المُفْرِطة، التي قد تَحْمل المنتصِرَ على تفويت فرصة الانتصار بالإصرار على حصول ما قد لا يتحقَّق كلُّه، أو الثقة في وعْدٍ دون ضمانات قوية.
وفي تاريخ الثَّورة المصرية السابقة عِبَرٌ كثيرة، وغدْرٌ خطير، كما أنَّ فيها مكاسبَ، كان منها النَّصُّ في الدُّستور المصري على أنَّ الإسلامَ دينُ الدولة، والذي كان مسودة حتَّى تقرَّر في الدستور الحالِيِّ وسابقَيْه، وهو ما لم يكن فيما قبْلَها؛ وثقتنا في أهل الإسلام في مصر أنْ لا يقبلوا تغييرًا في الدستور يَمسُّ دين الدَّولة، بل أمَلُنا فيهم - بعون الله - أن يُضِيفوا إليه - مِن خلال الأدوات الرسميَّة الْمُتاحة - ما يَجْعل الشريعة الإسلاميَّة العادلةَ مصدرَ القوانين المِصْرية، وهي شرعيَّة تَحْفظ حقوق المواطن المصريِّ؛ مسلمًا كان أو قبْطيًّا.
نسأل الله - تعالى - أن يُبْرِم لأُمَّة الإسلام أمْرَ رشْدٍ، يُعَزُّ فيه الإسلامُ وأهله، وأن يولِّي على المسلمين خيارَهم من ذوي الأمانة والقوَّة، مِمَّن يحفظون الدِّين ويسوسون الدُّنيا به، ويسوسون الأمَّة سياسةً شرعية، تَحْفظ كيانَهم وهُوِيَّتَهم، وتُحقِّق الاستقرار والرَّغَد لَهم في أوطانهم.
وصلِّ اللَّهم وسلِّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.