عبد العزيز محمد قاسم - الوطن السعودية هنا بعض الوقفات التي انبجست من وحي ثورة جيل الفيس بوك (الجيسبوك) وقد تسمرنا خلال الأسبوعين الفارطين أمام شاشات التلفزة الإخبارية؛ نتابع تلك المسيرات الراقية، والمظاهرات السلمية الحاشدة التي قدمها أولئك الشباب درساً للبسيطة كلها، جعلت كبار قادة العالم يثنون على تلك الثورة الناعمة التي لم تلجأ للعنف والتخريب، فما ثمّ إلا هتافات ولافتات ملأى بالروح المصرية الشعبية، يتفنن أولئك المتظاهرون في ابتداعها، فيما نلاحق نحن بكل الاهتمام والإعجاب تلك المواهب الخلاقة بعفويتها، وبساطة تعبيرها، ونتفاجأ كل يوم بابتكارات فريدة وساخرة وساحرة، لا تخرج إلا من مصري صميم فقط.. مجموعة شباب لم تعركهم الحياة السياسية، كان يطلبون الحرية والكرامة للإنسان المصري، وحاول دهاقنة السياسة المصرية طيلة الأيام الفارطة؛ أن يلووهم عن مطالبهم، وإقناعهم بالرجوع لبيوتهم مع وعود بتحقيق ما يريدون، واستخدموا تجاههم كل أساليبهم التي تخصصوا فيها من الترغيب والترهيب دون جدوى، فيما أفلح جيل الفيس بوك (الجيسبوك) أخيرا في تحقيق مطلبهم الأول برحيل النظام المصري، الذي لم يدر بخلد أحد أن يمشي بهذه السهولة، ولكنها الإرادة الحرة والتخطيط الممنهج والإعلام الجديد. هذه الثورة الناعمة، أعادت لذاكرتي مكاشفاتي مع المفكر السوري، زميلنا في صحيفة (الوطن)، الدكتور خالص جلبي، وقد بحّ صوته، وجفّ حبر قلمه، وهو يدعو عبر أربعة عقود ونيّف إلى السلم واللاعنف، ويضرب لنا دوماً نموذج غاندي في المطالبة السلمية بالحقوق، وظني أنه أسعد الناس اليوم بهذه الثورة التي برهنت نظريته ونظرية أستاذه جودت سعيد أيضاً، ومن قبلهما المفكر الجزائري مالك بن نبي، حتى إن الرئيس الأمريكي أوباما قال الجمعة الماضية، وعقب تنحي حسني مبارك: "إن المصريين ألهمونا فكرة أن العدالة يمكن أن تتحقق وتنجح من دون العنف، وإنهم أعادوا أصداء التاريخ بمسيرة غاندي نحو العدالة، ومسيرة الألمان والتوانسة نحو الحرية". وقفة أخرى، وكإعلامي تابع جيداً تلك المظاهرات، ورصد مواقف القنوات الإخبارية، أحاول في هذه السطور تقديم انطباعي في تغطياتها، فقد ألفيت أن قناة (العربية) كانت حيادية جدا، فلا هي أرضت المشاهد العربي الذي لم يشبع نهمه وأمنيته بأن تنحاز القناة للمتظاهرين بالكلية، ولا هي أرضت النظام المصري عبر بثها كثيراً من آراء المتظاهرين والمتعاطفين معهم، ويقيني أنه لا يختلف مهني على أنها ساقت كل الآراء وحاولت الحيادية في التغطية، ولكن يبقى السؤال حيالها إن كان ما فعلته صواباً في مثل هذه التغطيات، فهي ربما نجحت في كسب النخب المحايدة -القليلة جداً- أو المشاهد غير العربي مثلاً –غير المهم في الشرائح المستهدفة لأي قناة عربية- ولكنها خسرت الطرفين الأهمين، فيما كانت قناة (الجزيرة) منحازة بشكل شبه كامل، وخصوصاً بعد حذفها من (النايل سات) من قبل النظام المصري، فقد كشرت عن أنيابها عقب ذلك، وأسفرت عن وجهها الصريح في تغطية تعبوية محترفة، وصلت في بعض مراحلها للتحريض، وبموازاة القناتين؛ كانت قناتا (بي بي سي) العربية، و(الحرة) الأمريكية متميزتين، وذات حرفية عالية في التغطية، بعكس تغطيتهما لحرب غزة. برأيي أن ما فعلته قناة الجزيرة يحتاج لتأمل ودراسة فورية من قبل المهتمين بالشأن العام العربي والنظم السياسية، ولست ضد التغطية المهنية المحترفة، وإعطاء كل الأطراف حقها بالتعبير، لكن الخطير التعبئة وإحداث الفتنة، وهو ما أود التنبيه على هذا الدور الذي يسيء للقناة، وبالمناسبة، ليس لي أي موقف سلبي من (الجزيرة)، بل لطالما كتبت مشيداً بها في مقالات عديدة، وعبر محاضرات إعلامية عامة، وأرجعت الفضل إليها في مساحة الحرية التي نعيشها كإعلام عربي عبر جرأة طرحها، وعدم رضوخها للابتزاز السياسي طيلة كل السنوات، لكن أن تصل لهذا التحريض السافر، فالأمر يستحق شيئاً من الوقفة العاقلة والصارمة تجاهها، وثقوا أنه مهما كان (الفيس بوك) و(تويتر) و(اليوتيوب) مؤثرة، إلا أنها جميعاً لا تصل أبداً لتأثير قناة إخبارية نافذة ومشاهدة، ويتابعها العالم بأسره. من هذه المحطات التي استلفتتني في ثورة (الجيسبوك)، رؤية الرئيس الأمريكي أوباما لهم، فقد قال عنهم: "شاهدنا جيلاً جديداً موهوباً ومبدعاً"، واستشرف المستقبل لمصر بقوله: "الروح الجيدة التي أبداها المصريون ستساعدهم على الانطلاق والتقدم سريعاً، ومصر الديموقراطية يمكنها أن تلعب دوراً مهماً ليس في المنطقة فقط، ولكن في كل العالم"، فهل فعلاً ستعود لمصر مكانتها التي فقدتها خلال السنوات الماضية عبر هذا الجيل، أوباما يقول ليس فقط في العالم العربي، بل في كل العالم، وهو ما يفرح أي عربي ومسلم، فمصر لديها الإمكانات والمواهب والطاقات، وستتحول إلى واحة للديموقراطية في عالمنا العربي، وستشع على كل الشعوب المنهوكة أنوار الحرية والعدالة والكرامة التي يفتقدونها، وتأكيداً أن مصر من اليوم فصاعداً ستأخذ طريقها نحو مقدمة العالم العربي وقد فقدته منذ أزمنة مديدة. المحطة الأخيرة، انثالت للذاكرة ما قاله أستاذنا عبدالرحمن الراشد يوماً ما في مكاشفاته معي، بأن المدافعين عن السياسة السعودية لا يجدون أي عنت أو حرج أو صعوبة في الدفاع عنها، فهي سياسة واضحة ومتوارثة عبر الملوك، وشعرت بفخر حقيقي، عندما أجارت الرئيس التونسي الذي خذله من كان يعمل لصالحهم، ورفض ساركوزي استقباله، ولم يجد أحداً يستضيفه، واتصل بقادتنا، ووافقوا من فورهم عبر شهامة عربية أصيلة متحققة، وخلق إسلامي رفيع يمتثلونه، وها هو الأمر ذاته يتكرر مع حسني مبارك، الذي تخلت عنه أمريكا، وكل دول أوروبا ضغطت عليه، فيما كان موقف قادتنا واضحاً، بعدم التدخل في الشؤون المصرية – كنهج ثابت دائم- وأنهم مع إرادة الشعب وخير مصر، غير أننا حفظنا تاريخ مبارك مع قضايانا، فلا ننسى له موقفه أثناء أزمة الخليج وحرب تحرير الكويت، وأثناء حرب لبنان، كانت للرجل مواقف لم ينسها قادتنا، وهو ما أوصلوه لأوباما في عزّ الأزمة، في تجلّ واضح لهذا الخلق العربي الأصيل.