بينما كانت الكاميرات والصور الحية تنقل مشهد عشرات الآلاف من المصريين وهم يحتشدون في الميادين العامة في القاهرة والاسكندرية والسويس والإسماعيلية وغيرها منددين بالحكومة وبالرئيس وكل ما ينتمي إلى الحكم في مصر ، وبينما كانت الأخبار تتنامى عن صدامات وقتلى في السويس وجرحى في مناطق أخرى ، كانت صحيفة الأهرام الحكومية تدبج مانشيتا لصفحتها الرئيسية يتحدث عن الاحتفالية الكبيرة التي أقامها المواطنون في مدن الجمهورية للشرطة ورجالها وكميات الزهور والحلوى التي تم توزيعها والزيارات التي يقوم بها الشعب إلى نوادي الشرطة للتهنئة ، بجوار مانشيت رئيسي آخر يتحدث عن اضطرابات شعبية في لبنان !!، هذا التصرف الذي يمكن أن تضرب له عشرات الأمثلة مما حدث في الإعلام المصري أمس ، ربما يقربنا من تذكر توجعات الديكتاتور التونسي الهارب زين العابدين بن علي عندما كان يتذلل لشعبه في لحظاته الأخيرة وهو يقول : لقد ضللوني . صحيفة الجمهورية الحكومية نشرت أمس في صدر صفحتها أن عدد المتظاهرين في القاهرة والمدن الأخرى تتراوح بين خمسين شخصا ومائة شخص ، وهو رقم أقل من عدد المعتقلين الذين أعلنتهم وزارة الداخلية نفسها وقدرتهم المعتقلين فقط بخمسمائة مواطن ، وهذه أول مرة يكون عدد المتظاهرين أقل من عدد المعتقلين!! ، ولكن هذا هو مستوى صحافة نظام الرئيس مبارك الرسمية وهذه هي المستويات العقلية لاختيارات صفوت الشريف للقيادات الصحفية المعبرة عن الحزب الحاكم . التليفزيون الرسمي المصري كان ينسق مع قوات الشرطة في الشوارع بالتمهيد لعملية الاستباحة التي تمت بعد منتصف الليل ضد المتظاهرين ، كان خيري رمضان وتامر أمين يتحدثان عن أن المظاهرات كانت تسير بشكل سلمي وعادي حتى تسللت لها جماعة الإخوان المسلمين ، وبالتالي كان لا بد من أن تتدخل قوات الأمن للتصدي لهذا الوضع الجديد ، وأنا لا أعرف كيف عرف خيري رمضان أن جماعة الإخوان تسللت للمظاهرات وهو يحتسي الشاي في استراحة الفضائية المصرية السابعة مساءا قبل بدء برنامجه ، ولكن خيري الذي كانت الصحافيات يتواصين عند الدخول إلى مكتبه بالحرص على بقاء باب المكتب مفتوحا ، كان يعمل في تلك اللحظة كضابط شرطة في إدارة العلاقات العامة والإعلام بوزارة الداخلية ، وليس كإعلامي أو صحفي ، كما كان التليفزيون وموقع اتحاد الإذاعة والتليفزيون أكثر وحشية وهو يتحدث عن ضحايا يوم الغضب بأنهم "شهيد" من قوات الشرطة ، و"قتيلان" من المواطنين ، وهي جليطة وجريمة دستورية لا يمكن أن تحدث في دولة محترمة . الشخصيات التي تتهم بشكل مباشر وأساس بجعل البلاد على أبواب ثورة شعبية حقيقية اختفوا من المشهد ، لم يسمع أحد أو يرى أحد جمال مبارك أو أحمد عز ، رغم أنهما اللذان أدارا أخطر الملفات السياسية الداخلية طوال السنوات الماضية ، بما في ذلك الانتخابات المزورة ومجمل السياسات والقرارات والقوانين والتعديلات الدستورية ، وهي التراكمات التي فجرت حالة الغضب التي تتمدد في مصر هذه الأيام ، اختفوا من المشهد ، مما فتح باب التكهنات حول أسباب "الاختفاء" وعن مكانهما الآن ، وهو اختفاء غريب ومثير ، ولا يوجد أي تفسير سياسي أو منطقي لهذا الاختفاء غير القسري ، وربما بعض التفسيرات لا تصلح للنشر الآن . أمس في بيان الداخلية قال أن "رسالة المتظاهرين" وصلت ولم يعد هناك حاجة إلى التظاهر من جديد ، ولا أعرف من الذي فوض الداخلية بالحديث عن "الرسالة التي وصلت" ، وإلى من وصلت الرسالة ، هل تعني أنها وصلت إلى اللواء حبيب العادلي مثلا ، أم تعني أنها وصلت إلى الرئيس مبارك ، ولماذا لم يقل الرئيس نفسه أن الرسالة وصلته ، لماذا اختفت الدولة بكاملها وتركت "رجل الشرطة" في مواجهة أخطر أزمة يواجهها النظام السياسي ، هل نفهم من ذلك أن النظام السياسي لم يعد لديه ما يقوله ، ولم يعد لديه ما يقدمه ، ولم يعد لديه الجرأة على مواجهة الشعب إلا بهراوة . ردود الأفعال الرسمية حتى الآن على الانتفاضة الشعبية تعني أن هناك غيبوبة سياسية تشل قدرات الحكومة المصرية على التصرف أو حتى الفهم ، أو أنها سلطة شاخت وأصبحت غير قادرة على التواصل السياسي مع شعبها ، هذا على الرغم من أن العالم كله أصبح يضع يده على قلبه الآن من المستقبل الغامض في مصر ، وبدون أدنى شك فإن هذا القلق الدولي يضاعف من الارتباك الذي تعيشه القيادة السياسية المصرية الآن ، والأمر المؤكد الآن أن الجمهورية المصرية الرابعة قد انتهت سياسيا .