ثلاثة أمور استغربتها؛ أولها عندما سمعت بصدور لائحة النشر الإلكتروني والثاني وأنا أقرأ تصريحات الوزير والثالث بعض مواد لائحة النشر الإلكتروني العشرين. أما استغرابي الأول فهو المواكبة على المستوى الزمني بين صدور لائحة النشر الإلكتروني وانتشار وثائق وكيليكس، فهل هناك علاقة بين الأمرين؟ أم أن الصدفة هي وحدها التي قدّرت التواكب الزمني بينهما؟. ولأنني لا أؤمن بالصدفة، فأنا أعتقد أن هناك علاقة بينهما بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وفي كلا الحالتين بلا شك فإن الحركة الإلكترونية التي أحدثها وكيليكس، مما جعل الكثير من المراقبين يعتبرون وكيليكس بداية ثورة جديدة لمفهوم الإعلام الإلكتروني الذي لا يعترف بأي حدٍ أو سقف رقابي أو اعتبارات حقوقية سوى نشر الحقيقة، فالمفهوم الجديد للنشر الإلكتروني، الذي قدمه وكيليكس هو «أن نشر الحقيقة يبرر استخدام أي وسيلة». وهذا المفهوم الجديد معناه التمرد على كل الضوابط القانونية والحقوقية والأخلاقية في سبيل كشف ونشر «الحقيقة». مما يعني أن نشر هذا المفهوم سيؤدي إلى صعوبات في المجتمعات الأبوية التي مازالت تؤمن بأن معرفة الحقيقة والبحث عنها وكشفها ليست ملكية عامة للشعوب. ولذلك فإيجاد احترازات استباقية من قِبل الجهات الرسمية لمقاومة أي ثورة وكيليكسية أخرى سواء محلية أو عالمية تعمد إلى نشر «الحقائق» أو تعليم الجماهير ثقافة البحث عن الحقيقة ومعرفتها وتداولها كانت حاضرة بصفة معينة في الذهنية الجمعية لمقرري اللائحة ولواضعيها. ولذلك أعتقد أن أول ضحايا هذه اللائحة هي «الحقيقة»؛ ولأن ليس المهم من هو الناقل ومن هو القائل، إنما المهم هو؛ هل القول والمنقول صادقان وحقيقيان؟ وهنا يأتي دور «ثقافة الحقيقة»، معايير التمييز بين القول الكاذب والقول الصادق، الحقيقة والزيف، التي لا تتحقق إلا في ضوء حرية القارئ في الحصول على المراجع والوثائق التي تعينه على ممارسة ثقافة الحقيقة. والوعي بقيمة تلك المعايير لا نتعلمه «بالمنع» «أن لا نسمع، أن لا نكتب، أن لا نقول» إنما التحفيز للبحث عن الحقيقة والصدق. ومتى حوّلنا المبني للمجهول إلى مبني للمعلوم في غياب تلك القوانين اختفت الحقيقة؛ لأن الناس سيقولون ما نريده ونشترط له، لا ما يريدونه هم أو يعرفونه دون شروط أو قيود. والأمر الثاني هو «مفهوم الحرية» فعندما صرح معالي وزير الثقافة الدكتور عبدالعزيز خوجة بأن اللائحة «لا تضع حدًا للحريات». وعبارة الوزير خوجة صحيحة بناء على مفهومه كسلطة «للحرية»، لكن مقابل مفهوم الآخر «للحرية»، الآخر الذي لا يمثل سلطة رسمية ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا. فإذا كان الوزير خوجة يرى أن لائحة النشر الإلكتروني «لا تضع حدا للحريات» فبعض المثقفين والمدونين يرون عكس ما يراه فليس بالضرورة أن نتحرك وفق معايير السلطة للمفاهيم وقيمها على مستوى النسبة والتناسبية. فهم يرون أن لائحة النشر الإلكترونية تسعى إلى تحجيم الأفكار والسيطرة على حرية الاعتقادات وتسعى إلى حكّومة النشر الإلكتروني ورسمنته أسوة بالصحف الورقية، كما أنها تسعى إلى وضع كل رؤوس أصحاب الرأي الآخر تحت سيف الرقيب ليقطعها وقتما أراد يمنع ويحجب حينما يشاء، ويعتقل ويقصي الأفكار حينما يشاء. فإذا كان الوزير يرى أن هذه اللائحة لا تضع حدًا للحريات «فهناك من يرى أنها أغلقت النافذة الوحيدة التي كان يشعر من خلالها المثقف السعودي باستقلاليته وحريته الفكرية والثقافية بعيدًا عن أي رسمنّة، لتعيده إلى نمط التبعية والصوت والواحد والفعل الطلبي»قل ولا تقل». فهذه اللائحة تربط ألسنة الناس ثم تقول لها: «انطلقوا فأنتم أحرار».! أو هكذا أعتقد. والأمر الثالث بعض المواد التي وردت في هذه اللائحة مثل المادة الرابعة والمادة السابعة والمادة الرابعة عشرة والمادة التاسعة عشرة البند الثالث والرابع. وقبل أن أتطرق إلى تلك المواد أريد أن أوضح أمرًا وهو أن الإعلام الإلكتروني في السعودية ينقسم إلى قسمين، القسم الأول وهو التابع للمؤسسات الحكومية والأهلية في كافة المجالات، والقسم الثاني تابع للأشخاص والجماعات الثقافية والجماعات الفكرية والهيئات الثقافية والفكرية الأهلية والجماعات الدينية. ولائحة النشر تشمل القسمين، وهذا اعتراضي الأول على اللائحة، فاللائحة يجب أن تكون قاصرة على «الإعلام الإلكتروني التابع للمؤسسات الحكومية والمؤسسات الأهلية التي تقدم ذات الخدمات التي تقدمها المؤسسات الحكومية» وما عدا ذلك فلا يجب أن يخضع لهذه اللائحة، وليس لوزارة الإعلام أن تخضعه لمعاييرها. ليس لها أن تتعرّف على هويات منشئ المواقع الإلكترونية والصحف الإلكترونية بما أن هناك جهة قادرة على الحجب متى ما خالف الموقع أو الصحيفة ما لا يتوافق مع معايير وزارة الإعلام، إلا إذا كانت الوزارة تملك نية مسبقة للتمييز بين التيارات الفكرية المختلفة، ونية مسبقة لإقصاء أصحاب الرأي الآخر أو ممارسة العنف الفكري عليهم، وهذا الهدف من بنود المادة السابعة التي تشعرك أن كل من يكتب وينشر في الإعلام الإلكتروني ما هم سوى مجموعة من «المسجلِين خطر» أو عصابات قطع الطرق وهو أمر قائم حتى تثبت عكسه. كما لفت انتباهي في المادة الرابعة التي تنص على أهداف هذه اللائحة بندين؛ البند الأول «دعم الإعلام الإلكتروني الهادف» والبند الرابع «حماية المجتمع من الممارسات الخاطئة» وكلمة «الهادف» و»الممارسات الخاطئة» هما اللتان استوقفت عندهما، لأنهما يُدخلان الجميع في صراع مع المفهوم والإجراءات، فالمقصود بالهادف؟ ومن الذي يحدد معايير الهادف من اللا هادف؟. وفق اللائحة وزارة الثقافة هي التي تحدد، فعلام ستعتمد معايير ذلك التحديد؟ هل ستعتمد على معايير سياسية أو معايير دينية أو معايير ثقافية أو معايير اجتماعية أو معايير فكرية؟ أو على كل تلك المعايير؟ وهل الجهة المخولة في وزارة الثقافة التي سوف تقوم بتحديد معايير الهادف من اللا هادف مؤهلة بالقدر الكافي بحيث تستطيع تمييز الفروق بين خطوط الطول والعرض بين الإعلام الإلكتروني والإعلام الورقي؟ أو ستكون تجربة مكررة وفاشلة مثل جهات «فسح الكتب» في وزارة الثقافة الذين لا يروا أبعد من «أرنبة أنفهم». وفيما يتعلق بالممارسات الخاطئة فالأمر لا يقل ضبابية عن سابقها من حيث حدود القيمة متى تتحول هذه الممارسة إلى ممارسة خاطئة؟ والأثر أي نوع الأثر الذي يوجب إعطاء صفة الخاطئة، وهنا سندخل في أزمة إجراءات، وهل يدخل ضمن حدود هذا البند كشف فساد المسئولين ومن في مقامهم؟ ونقد المؤسسات الحكومية ورجالاتها؟. أما بنود المادة الرابعة عشرة، والبند الثالث والرابع في المادة التاسعة عشرة. فهي بنود تسعى إلى «تطفيش» كل من يفكر أن يُنشئ موقعًا إلكترونيًا أو صحيفة إلكترونية، وتحولت الوزارة مع تلك البنود إلى مجرد «رقيب» لمتابعة الأشخاص والأفكار والتفتيش في سجلاتها وسيرهم وسلوكياتهم، بل والتخويف من تبني أو نشر الرأي الآخر. أما المادة التاسعة عشرة وخاصة في بنودها الأول فهي تحبس الكاتب والناشر والمدون الإلكتروني داخل جدار عازل.! الحقيقة التي لم تدركها وزارة الإعلام هي أن كل من فكر في إنشاء موقع إلكتروني أو صحيفة إلكترونية كان من أجل نشر أفكاره وآرائه التي لم تستطع الصحف الورقية نشرها وطرحها للنقاش بسبب المعايير التي تفرضها وزارة الإعلام على الصحف، فلجأ إلى الإعلام الإلكتروني؛ لأنه يتيح له حرية الرأي الآخر، لكن عندما تعمم معايير الصحافة الورقية على الصحافة الإلكترونية يفقد الإعلام الإلكتروني ميّزته كإعلام حر ومستقل عن أي معايير، لجأ إليه الرأي الآخر. أعتقد أن الوزارة لم يحالفها الحظ في إصدار هذه اللائحة؛ لأنها أفسدت التوازن بين الرأي والرأي الآخر الذي كان يتحقق عبر حرية الإعلام الإلكتروني واستقلاله عن معايير سلطة وزارة الإعلام وخاصة في غياب الصحف الورقية المستقلة ثقافية. وهذا التنفيس يحافظ على سلامة وحدة المجتمع وأمنها ومصدر لمعرفة طبيعة ما يفكر به الرأي الآخر، لكن عندما أضيق النافذة الوحيدة التي كان يعتبرها من يملك الرأي الآخر هي بمثابة استقلال فكري فأنا أدفع إلى اختلال في ساحة الرأي وأفقد المصدر الذي كنت أبني عليه معرفة تطورات الرأي الآخر، وأدفعه إلى جهة غير محلية بحيث يصعب معه ضبط إطار الصورة. فلا بد من وجود توازن بين ما «ينبغي أن يقال» من خلال الإعلام الحكومي وبين «نشر ما لا يقال» من خلال الإعلام الإلكتروني الحرّ والمستقل، لكن حكوّمة الإعلام الإلكتروني تخالف حق حرية الرأي والاعتقاد، ولا تعني حرية الرأي والاعتقاد أن تقول ما تشاء أو ما تعتقده، بل إن تضمن إعلامًا حرًا ومستقلاً تنشر من خلاله ما تريده وتعتقده، ففاعلية الحق الممارسة، فيما لا يضر الأمن القومي للبلد وأمن وحدة المجتمع. إن كانت وزارة الإعلام تعتقد أن «قمع» الأفكار أو كما تدعي تنظيمها هي التي تعلّم الناس آداب الحرية، فأنا أعتقد أن «الفوضى الخلاقة» هي التي تعلّم الناس الحرية وكيف يفكرون وكيف يحبون وطنهم لا لوائح المنع والتنظيم التي تربط لسانك ثم تقول لك: أنت حر.! وأخيرًا.. أقول دعوا الناس يثرثرون دون شروط ولا قيود؛ فهم لا يملكون سوى الثرثرة.