وصلتني مساء يوم الخميس رسالة عبر الجوال تقول: (خادم الحرمين يصدر أمراً ملكيا يقضي بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء) وكان الرد (الله يبشركم بالخير) فالحقيقة كنا ننتظر تدخلا من المقام السامي في شأن عام ومهم كهذا الشأن، خاصة أننا بتنا نسمع أصواتا نشازا تستهويها الشهرة أو الحديث فيما لا تعلم، هذه الأصوات سمعها معنا خادم الحرمين الشريفين وهذا ما دفعه - حفظه الله - للقول في مضمون قراره السامي: (وقد تابعنا هذا الأمر بكل اهتمام ورصدنا تجاوزات لا يمكن أن نسمح بها، ومن واجبنا الشرعي الوقوف إزاءها بقوة وحزم، حفظا للدين، وهو أعز ما نملك، ورعاية لوحدة الكلمة، وحسما لمادة الشر، التي إن لم ندرك خطورتها عادت بالمزيد، ولا أضر على البلاد والعباد من التجرؤ على الكتاب والسنة، وذلك بانتحال صفة أهل العلم، والتصدر للفتوى، ودين الله ليس محلا للتباهي، ومطامع الدنيا، بتجاوزات وتكلفات لا تخفى مقاصدها، مستهدفة ديننا الذي هو عصمة أمرنا، محاولة بقصد أو بدون قصد النيل من أمننا، ووحدة صفنا، تحسب أنها بما تراه من سعة الخلاف حجة لها بالتقول على شرع الله، والتجاوز على أهل الذكر، والتطاول عليهم، وترك ترجيح المصالح الكبرى في النطق والسكوت..). أما علماؤنا الأجلاء الذين تفرغوا للفتوى في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية وعرفوا بها منذ زمن، وخدموا بذلك العامة والخاصة فأناروا دروبا كانت مغيمة أو مظلمة على البعض، ورفعوا الحرج عن الكثيرين داخل البلاد و خارجها فكثيرا ما نسمع اتصالات تأتي من العالم العربي والإسلامي بل والغربي تطلب سماع رأي علمائنا الأفاضل في أمور عباداتهم ومعاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وهؤلاء كما فهمت من القرار السامي سيمكنون دون أدنى شك من الفتوى وبشكل رسمي معتمد، سواء عبر القنوات الفضائية أو المواقع الإلكترونية أو عبر رسائل الجوال، فهم علماء اجتمعت الأمة عليهم وسعت إليهم، وعرفوا باستقبال استفسارات العامة حول العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، ويطيب لي في هذا المقام أن أوجه لهم الشكر الجزيل على سعة بالهم وعظم صبرهم وتواضعهم للعامة الذين قد يكررون الاستفسارات عن قضايا معينة وبشكل متكرر، وفي أمور قد تكون معلومة من الدين بالضرورة. ولكني ها هنا يحلو لي الحديث عن القرار الملكي الذي أثلج صدورنا وأراح قلوبنا ، فلقد كان الشعب السعودي يتخبط، فريق مع هذا وفريق مع ذاك ، لقد أصبحت بعض الفتاوى مؤخرا بمثابة مباراة لكرة القدم يلقي أحدهم الكرة يمنة ويسرة دون وعي أو إدراك، فلا يهمه إن ضربت وجه أحدهم أو صدره أم خرجت عن المرمى أو أرجعها إلى الوراء لتستقر في عقر داره. إن صدى أمثال تلك الفتاوى الشاذة لم تقف عند الإعلام وقنواته المختلفة، بل وصل دخانها ورمادها للجامعات، فكثيرا ما كانت هذه الفتاوى الشاذة تصل للقاعات الجامعية لتكون مدار نقاش، مما يضطر المدرس إلى بيان أن هذا وذاك غير مؤهلين للفتوى، وأن للفتوى شروطا عظيمة لا تتحقق في كل مثقف أو قارئ أو متعلم، ولو كان حاملا لشهادة من كلية شرعية، وهذا التنظيم ينطبق على كافة التخصصات، فالجامعات عندما تخرج متخصصين مؤهلين تقر في الوقت نفسه أن ما يحصلون عليه من شهادات فور تخرجهم تؤهلهم -فقط- لممارسة مهامهم في نطاق محدودة، ولا تؤهلهم لتقديم الفتوى في تخصصاتهم العلمية كالطب والهندسة وغيرها، وليصل الواحد منهم لدرجة استشاري في مجاله عليه بذل المزيد والمزيد من البحث والدراسة، وقد ينال بعدها الرخصة لتقديم استشارات في تخصصه. والأمر ها هنا ينطبق على المفتين وهو في أمرهم أعظم وأجل، فليس كل من وجد في نفسه القدرة على الفتوى يصلح لذلك، والتحدث في دين الله بغير علم أو بعلم ناقص يؤثر سلبا على دين الله الذي هو أمانة في أعناقنا ويستوجب علينا تسليمه لأبنائنا كما وصل إلينا نقيا صافيا بحول الله سبحانه، والتساهل في هذه القضية سيؤثر أيضا على وحدة هذه البلاد الطيبة التي نذرت نفسها لإعلاء كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله واختارت ذلك شعارا لها، البلاد التي سعت في بذل كل غال لخدمة ضيوف الرحمن . ومن واجبنا كمجتمع التفكر في أحوال الأجيال القادمة، فقد تعالت أصوات أولئك القابعين على كرسي الفتوى وتمادت وتطاولت، كما أنهم لم يتورعوا عن نشر آرائهم الشاذة وبكافة الوسائل الحديثة، ويصفقون لها ويفرحون بها، آراء شاذة يقف العامة من بعضها موقف الاستهجان والاستنكار، وأحمدُ المولى سبحانه أن مكن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - من إصدار هذا القرار التاريخي لبيان الموقف الرسمي من أمثال تلك الفتاوى، فقد قال حفظه الله: (يمنع منعا باتا التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة، وكل من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائنا من كان، فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار..). كما أسعدنا دفاع خادم الحرمين الشريفين عن المؤسسات الشرعية ورجالها، وعلى اختلاف مهامها، والتحذير من محاولة المساس أو إضعاف هيبتها في نفوس المواطنين، فشكرا يا خادم الحرمين الشريفين فقراركم هذا أثلج صدورنا وأراح بالنا الذي أُنهك من جراء تلك المهاترات، جعل الله ذلك في موازين حسناتك وحجة لك لا عليك ، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.