تساءل الدكتور علي شريعتي في كتابه (العودة إلى الذات)، كيف وصل مفكرونا إلى الرؤية غير الدينية؟. ووجدته يقدم إجابة في غاية التبسيط لكنها لا تخلو من طرافة، ومن واقعية بعض الشيء، حصلت وتحصل لشريحة من الناس في بيئات مختلفة، وفي ظل مؤثرات نفسية وثقافية ضاغطة، وهناك من كاشف بها علنا وصراحة فيما بعد، إما في وقت مبكر أو متأخر، وهناك من يخفيها ويتكتم عليها. في هذه الإجابة قدم الدكتور شريعتي وجهة نظر لها طبيعة نفسية واجتماعية، أرجعها إلى ما تعرض له أولئك المفكرون منذ الصغر، داخل أسرهم من ضغوطات وإكراهات لها علاقة بالدين، وبقيت محفورة في ذاكرتهم، وأثرت فيما بعد على طبيعة موقفهم من الرؤية الدينية، خصوصا بعد أن وجد هؤلاء أنفسهم في بيئات اجتماعية وثقافية مغايرة، كالذين حصلوا تعليمهم الجامعي والأكاديمي في أوروبا وأمريكا. وملخص وجهة نظر الدكتور شريعتي، أن ما حصل مع هؤلاء المفكرين الذين تخلوا عن الرؤية الدينية، كان نتيجة ذلك البرنامج اليومي والقسري الذي ظل يتكرر كل صباح وقبل شروق الشمس، مع الإيقاظ لصلاة الصبح، بتلك الطريقة التي يصاحبها رفع الصوت والتزجير والتعنيف، المشهد الذي يستمر بهذه الصورة، ابتداء من مغادرة الفراش بعد كسر نوم عميق، والذهاب إلى دورة المياه للتطهر، ومن ثم التأهب للمراقبة والتعنيف والضرب أحيانا، عند البدء بسبغ الوضوء، ومن ثم القيام للصلاة، والاحتراز الشديد من الخطأ أو التقصير أو الإخلال في شيء منهما. وما ينتهي إليه الدكتور شريعتي، أن التخلي عن الرؤية الدينية عند هؤلاء المفكرين جاء نتيجة حالة نفسية، ومن عقدة وردة فعل أصابت هؤلاء، ودفعت بهم لمثل هذا الموقف، ولم تأت نتيجة الدراسة والتعليم، أو التأثر بالثقافة الجديدة، أو المدارس الفكرية والاجتماعية الحديثة. وجهة النظر هذه استوقفت مترجم الكتاب الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا أستاذ اللغات الشرقية في كلية الآداب، جامعة القاهرة، وعلق عليه في الهامش مصدقا له، ومبرهنا عليه بقوله: كان أحد زملائي يهاجم الدين هجوما ساخرا لا هوادة فيه، وبالرغم من أنه كان متخصصا في علم النفس، إلا أنه لم يفهم أن هجومه هذا من نوع ردود الأفعال، وذات ليلة كنت أجلس معه ومع إخوته، وكلهم من المثقفين الذين يتخذون موقف الرفض والسخرية من الدين، وتشعب الحديث عن ذكريات الطفولة، واكتشفت أنهم جميعا يتذكرون بمرارة، كيف كان أبوهم يرغمهم على الصلاة في فجر الشتاء البارد، والصوم في أشد أنواع الحر.. وما ينبغي التوقف عنده أمام وجهة النظر هذه، أن هناك فعلا من مرت عليه مثل هذه المواقف والظروف، ودفعت به نحو التخلي عن الرؤية الدينية، ولكن هناك أيضا من مرت عليه مثل هذه المواقف والظروف، ولعل بأعلى درجاتها قسوة، ولم تدفع به نحو التخلي عن الرؤية الدينية. ونجد اليوم من يتذكر مثل تلك المواقف والظروف، ويذكر بها أبناءه في بيته، وتلامذته في مدرسته وجامعته، ومن ينتمون إلى الجيل الجديد في بيئته ومجتمعه، ولكن بنوع من التقدير والاحترام والإعجاب لجيل الآباء السابقين الذين كان الدين بالنسبة إليهم أحرص ما يحرصون عليه، وبالذات الصلاة اليومية. وهذا يعني أن هذه الحالة لا تحتمل وجها واحدا له طبيعة سلبية فقط، كالذي أشار إليه الدكتور شريعتي وصدقه الدكتور دسوقي شتا، ولكنها تحتمل أيضا وجها آخر له طبيعة إيجابية، حصل ويحصل مع شريحة من الناس الذين يرون أن جيل الآباء كانت نواياهم ومقاصدهم حسنة وحميدة، ويحفظ لهم معروفهم، حتى لو كانت طريقتهم لا تخلو من قسوة وغلظة. [email protected]