د. حسن بن فهد الهويمل - الجزيرة السعودية قضى المفكر المثير إلى حد الصدام نصر حامد أبو زيد نحبه بتأثير فيروس مجهول وقدم إلى رب وسعت رحمته كل شيء، وليس من حق أحد أن يشهد لموحد بجنة أو نار، ومن تجرأ على الله في أحكامه فقد عرض نفسه للوعيد وفي الأثر: (من هذا المتألي علي) ونحن حين يستدعينا رحيل مفكر قلق مقلق فإننا لا نشهد إلا بما علمنا ولقد يكون المؤمل أن نذكر محاسن موتانا، ولكن ذلك يكون في حق من مات ولم يترك أثراً يقرؤه الناس، فينعكس أثره على من بعده، وفي الأثر (يموت بن آدم وينقطع عمله إلا من ثلاث) منها (علم ينتفع به) وإذا أجر العالم بعلمه المفيد، فإنه يأثم حين يترك علماً يقدح في العقيدة أو يسيء إلى الأخلاق. وبدون هذه الرؤية لا يمكن أن تصان العقائد والأخلاق، و(أبو زيد) من أولئك المفكرين الذين صدعوا الفكر المتناظر، وأحدثوا توتراً في الوسط المصري، ولما لم يحتمل المجتمع المصري الرؤى والتصورات التي أخذ بها أبو زيد اضطر إلى الهجرة من مصر، وحين هدأت الأوضاع عاد ليفاجأ بفيروس مجهول يقضي على حياته القلقة المقلقة، وينشئ حياة جديدة قد يسهر الخلق جراها ويختصمون. وفي ضجة الصراع الدائر حول فكر أبي زيد كنت حاضراً في مصر وعبر الكتب التي أخرجها للناس أو أخرجها الناس حول فكره، ولم أكن في يوم من الأيام مكتفياً بما يقال عنه، لأن تجاذب القضايا قد يفقد معه الأطراف العدل والمصداقية، وكم من عالم أو مفكر ظلم بسبب التحامل عليه، والتاريخ الحضاري مليء بالضحايا والمظلومين، ولو أن المتابعين للجدل الفكري تجاوزوا إفرازات المواقف إلى المواقف نفسها، وقرؤوا المبادئ والأفكار مجردة من الأهواء الجامحة والاصطدامات الفاقدة للاتزان لكان بالإمكان أن نتفادى كثيراً من الصدامات والتصنيفات، وأبو زيد اجترح خطيئات لا يمكن القبول بها، وإن خلف فكراً لا يستهان به، ودخل متاهات فكرية وجنح عقلية لا يمكن السكوت عليها. غير أنه بالإمكان معالجة الأوضاع بأساليب لا تصل إلى حد الحكم عليه بالردة والمطالبة بتطليق زوجته وقتله مرتداً، إذ هناك حلول أخف مما آلت إليه الأمور. نعم أبو زيد قال في القرآن الكريم ما يصل بصاحبه حد الكفر، وربما تكون لديه تأويلات تدرأ عنه حد الردة، وكان بالإمكان مسألته قبل محاكمته ومحاورته قبل الحكم عليه. وجدل الديني والعقلي جدل قديم تعرض له علماء ومفكرون وفلاسفة، وكلما ضيق الخناق على أحد منهم لجأ إلى الفصل بين الدين والرؤية المتنازع حولها. نجد ذلك عند (ابن رشد) حين طلب الفصل بين الدين والفلسفة، وعند (الأصمعي) عندما طلب الفصل بين الدين والشعر، وعند كافة العلمانيين حين طالبوا بالفصل بين السياسة والدين، أو بين الحياة والدين في العلمانية الشاملة الكافرة. وفكر أبي زيد خليط غريب، فهو عقلاني علماني بنيوي تفكيكي صوفي باطني، رفض قداسة النص وعصمة النظم القرآني ويلح على الأنسنة التي ينادي بها (محمد أركون). ولقد يكون في بداياته منطلقاً من عباءة الإسلام المتجدد، إذ لم يقل بتنحية الإسلام، ولكنه طالب بتجديده تجديداً يحيله إلى منتج إنساني، وأكاد أقطع أن فكر أبي زيد يقوم على قضية واحدة لا يتعداها وهي قضية (النص) بوصفه مصدر التشريع والتكوين الفكري، وهو بهذا الهاجس يلتقي مع (على حرب) ولكنه يختلف معه في أهداف الدخول في عوالم النص المقدس، على أن لأبي زيد مجازفات غير راشدة، وذلك حين درس ثلاثة خطابات: خطاب المؤسسة الدينية ممثلة ب(الأزهر) والخطاب الأصولي ممثلاً باليمين واليسار الإسلاميين. والخطاب التنويري. وخرج من الثلاثة بخطاب عقلاني علمي معرفي صوفي. وأبو زيد بداياته مغرم بالثنائيات ك(النص - والحاكمية) و(الفقهاء - والوعاظ) و(الفكر - والدين) و(الاعتدال - والتطرف). وقضيته الملحة تتمثل في تهميش الشريعة وتجديد العقيدة والعقيدة عنده تقتضي أنسنة النص القرآني واستبعاد القداسة، بوصفه متلبساً باللغة التي هي إنسانية وليست ربانية فالقرآن عنده نص خاضع للنقد والتفكيك، والمسوغ لهذه الرؤية كونه بلسان عربي، واللسان العربي ليس ربانياً بحيث يحتفظ بقدسيته وإن كان قبل التلبس مقدساً، وإذا كان (ابن تيمية) قد تصدى لانحرافات المفسرين المتوسطة ب(المجاز) وأنكره حتى من اللغة فإن أبا زيد التقط الخيط من (المعتزلة) دون أن يستشعر خطورته في البحث عن الذات الإلهية والأحكام الشرعية وحقيقة المغيبات وهي القضايا الثلاث التي زلت بها أقدام وظلت بها أفهام، وقد تقصي ذلك في كتابه (الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة). وقد عرض لإشكاليات القراءة وآليات التأويل، وحاول التخلي عن مجموعة القواعد والمعايير التي قيد المفسرون أنفسهم بها في فهم النص، مستشعراً أن علاقات النص تؤثر في تفسيره، وهو لا يريد هيمنة القداسة على النص، بحيث تتحكم في الرؤية والتأويل، وهو بهذا يتماهى مع نظرية (موت المؤلف) وهذا التحرر عرضة لشطحات موجعة، أثارت الرأي العام عليه، وأكاد أجزم بأن كتابه (إشكاليات القراءة) يعد مقدمة لتجاوزاته المخلة بعقيدته، ولأنه سباق إلى إجهاض الدلالة الظاهرة فقد أغرم ب(محيى الدين بن عربي) وأصدر عنه كتابين: (فلسفة التأويل) و(هكذا تكلم ابن عربي) واستدعاؤه لابن عربي محاولة ذكية لتبرير رؤيته للنص القرآني الذي اجتهد في أنسنته، لكي يتمكن من قراءته قراءة نقدية كأي نص أدبي تراثي. وإذا كان ابن عربي أجهض النص بالتأويل الباطني فإن أبازيد أجهض النص بالتفكيك والتأويل وإذ لا يمكن تصور فكر أبي زيد بمعزل عن الجدل العميق الذي دار حول فكره فقد قرأت أربعة كتب تكاد تكون جماع أمره، وإن فقدت في بعض مناحيها المصداقية والموضوعية من كل الأطراف بما فيهم أبو زيد وإشياعه: الكتابان الأولان من جمع أبي زيد وإعداده (الفلسفة في زمن التفكير ضد الجهل والزيف والخرافة). وهو مجموعة وثائق ومقالات حول ما أثير حوله من جدل و(القول المفيد في قضية أبو زيد) ويشمل على أكثر من ستين مقالاً وحواراً للمدافعين عن حرية الرأي و(قضية أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة) للخصم اللدود الذي أشعل فتيل القضية الدكتور (عبد الصبور شاهين) وهو مجموعة مقالات كتبت بأقلام مناوئة لفكر أبي زيد، وكتاب (بين التكفير والتنوير) وإذ قضى أبو زيد نحبه بعد ضجة لم تحسم بعد، فإن التاريخ سيبقى على إفرازاتها ولا أحسبها ستصير إلى مزبلته، فهي قضية كبرى خلخلت الفكر العربي وأحدثت تصدعات لا يمكن رأبها، وأبو زيد لم يكن وحده الذي انتهك قدسية النص المقدس، لقد سبقه عدد من الكتاب والدارسين والمفكرين وسيظل القرآن الكريم مجالاً خصباً لتناسل الأفكار والمبادئ. على أنه من الخطورة بمكان أن ينسى المفكر انتماءه ومعتقده ويدهن مع المدهنين ومن ثم لابد من رفض فكر أبي زيد والتخلي عنه، فهو فكر منحرف فكر أنْسنَ المقدس، بحيث أصبح النص القرآني منتجاً إنسانياً قابلاً للأخذ والرد في بنائه وأبعاده الموضوعية وتلك رؤية عقلية، لم تكن جديدة، لكنها مجددة، إضافة إلى أخطاء تاريخية وموضوعية ارتكبها في كثير من كتبه حتى أن بعض المعارضين لرؤيته أشار إلى أن الاعتراض على جهله لا على فكره، جاء ذلك حول كتابه عن الشافعي. وأبو زيد سيعود إلى المشهد الفكري بعد وفاته وسيقال فيه وعنه ما يشكل ركاماً قد يكون له ما بعده.