بظهور هذا المقال تكون منافسات كأس العالم قد انتهت وانتهى معها شهر كامل من الهوس والغفلة اللذيذة.. "الهوس" لأنها الحالة الوحيدة التي تستولي فيها كرة القدم على عقول الأمم بمختلف لغاتها وثقافاتها .. و"الغفلة" لأنها الفترة الوحيدة التي تنسى فيها شعوب العالم مشاكلها الداخلية وتغض الطرف عن كافة المشاكل والمآسي العالمية.. وكرة القدم هي في الحقيقة من يستحق لقب "أفيون الشعوب" كونها فترة خدر لذيذة لطالما استغلها السياسيون والطغاة لصالحهم ؛ فحين استضافت إيطاليا كأس العالم عام 1934 قال موسوليني " لم أتصور ان ولاء الايطاليين لهذه اللعبة يفوق ولاءهم لإيطاليا واحزابها الوطنية، سنفعل ما بوسعنا لاستضافة البطولة القادمة" (وبالفعل استضافت ايطاليا البطولة التالية عام 1938) ! وبعد فوز انجلترا بكأس العالم 1966 كتب وزير الاقتصاد روبرت كروسمان : "هذا النصر سيخفف الضغوط على الجنيه الاسترليني ويحد من عمليات المتاجرة ضده".. أما رئيس الوزراء هارولد ويلسون فحاول تجيير الفوز لصالح حزبه حين قال "لم تكن انجلترا ستفوز بكأس العالم لو بقيت في ظل حكومة العمال" !! .. وإلى اليوم لم يشهد العالم فريقاً بروعة منتخب البرازيل عام 1970 حيث اجتمعت فيه كوكبة فريدة من النجوم من بينهم بيليه وريفالينو وبيبيلو وتوستاو... وحين فاز الفريق بالكأس بكى توستاو (وهو طبيب في الأصل) حتى أغمي عليه. وفي ذلك الوقت ظن الجميع انها دموع الفرح ؛ غير انه اعترف لاحقا بأنها دموع الندم لأنهم بذلك الفوز ألهوا الشعب البرازيلي وسمحوا للعسكر بتعزيز سلطتهم غير الشرعية (التي اغتصبوها للتو)! وحين استولى الجنرالات على الحكم في الارجنتين فعلوا المستحيل لضمان استضافة كأس العالم عام 1978. ثم دفعوا من الرشاوى ماوضع الفريق الارجنتيني منذ البداية في مجموعة ضعيفة تبعدها عن مواجهة البرازيل. وفي الأدوار النهائية بدا مؤكدا ان البرازيل ستتأهل للمباراة الختامية بعد تغلبها على بولندا بنتيجة (3/صفر) كون هذه النتيجة تعني أن على الأرجنتين التغلب على فريق بيرو القوي بفارق (أربعة لصفر) كي تتأهل للمباراة النهائية.. وفي موقعة تخاذل فيها منتخب البيرو فازت الارجنتين (6/صفر) فأقصت بذلك البرازيل وفازت بالكأس على حساب هولندا.. وبعد فترة طويلة اتضح ان البنك المركزي الارجنتيني اشترى تلك المباراة من حكومة البيرو نظير شطب 500 مليون دولار كديون مستحقة عليها / في حين وصلت للاعبين الأرجنتينيين تهديدات بالتصفية الجسدية في حال خسروا أمام هولندا ! وفي الحقيقة لم تكن هذه المرة الأولى التي تتدخل فيها حكومات العالم لتغيير نتائج المباريات . فقد سبق لحكومة السلفادور ان ضغطت على حكومة الهندوراس للسماح لها بالفوز بالبطولة القارية (بغرض إلهاء الشعب عن ضغوط التضخم الداخلية). غير أن هندوراس لم ترفض فقط هذا الطلب بل وفازت على السلفادور مما أدى لنشوب معركة حقيقية غزت فيها جيوش السلفادور هندوراس (كحل بديل لإلهاء الشعب عن ذات الضغوط)!! وفي بطولة 1950 وصلت البرازيل والأروجواي الى المباراة النهائية .. وفي الليلة السابقة للمباراة حضر من الاروجواي مسؤول حكومي كبير طلب الانفراد باللاعبين. وفي ذلك الاجتماع شكرهم على الجهد الذي بذلوه للوصول للمباراة النهائية لكنه حذرهم من ان الفوز على البرازيل سيعرض علاقات البلدين للخطر ويضر بمصالح الاروجواي الاقتصادية .. ولكن ؛ رغم هذا التحذير ورغم ان جميع النقاد رشحوا البرازيل انتفض لاعبو الاوروجواي لكرامتهم وفازوا على البرازيل في عقر دارها أمام 204,000 متفرج (كأعظم جمهور يحضر مباراة لكرة القدم حتى اليوم)!! أما المأساة التي أتذكرها شخصيا فهي استغلال إسرائيل انشغالنا وانشغال العالم ببطولة 1982 لغزو لبنان وتدمير بيروت وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا .. وفي آخر مسابقتين استغلت حالة (الهوس) و(الغفوة) لاقتحام غزة وتدمير السلطة الفلسطينية ومنظمة حماس من خلال مخطط مسبق أجل لكأس العالم!! ... وبالمناسبة .. تكاد تكون اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي لا تهتم بالمشاركة حتى في التصفيات الأولية..