الناس يتعاملون مع بعضهم البعض حسب مايمليه عليهم ظاهر الحال، ولكل انسان سر أو أسرار يحتفظ بها لنفسه، والكلام يصف الحال أو لايكاد وفق منظومة معقدة متداخلة من الأخلاقيات والإيمانيات والتأويلات والتربية والعيش المشترك، ووفق أنماط متراكبة من العادات والتقاليد والعامل الإجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، والإشكالية أنك لاتستطيع أن تتعرف على الحقيقة من خلال تلك الأنظمة المعقدة والتي هي بمثابة ستار حديدي يخفي خلفه كما متراكما من الأسرار والألغاز والأبعاد والمعلومات والمعارف إلا من خلال محاولات مستميتة يبذلها رجال التحقيق في دهاليز الشرط وأروقة المحاكم يحاولون من خلالها الوصول إلى استنتاجات معينة تدلهم على الحقيقة أو تقربهم منها في مجازفات قد تنجح وقد تخفق. ودين الإسلام كفل الخصوصية للمسلم وغير المسلم ومن ذلك بعض الأحكام المتعلقة بمعاقبة المتلصص على عورات الناس أو المتتبع لعوراتهم، وغلظ الإسلام في ذلك وشدد حفاظا على وحدة الصف المسلم وتعظيما لشعائر الله أن تنتهك ولحدوده أن تستباح. إن خاصية كشف أسرار الناس لايعول عليها الإسلام إلا في حالات محدودة تتعلق بالحرب وسبر أغوار العدو ومحاولة الحصول على معلومات مفيدة أو أسرار مخفية. ولسنا متعبدين بتتبع عورات الناس ولا سبر أغوار نفوسهم ولاالتشكيك في أقوالهم ولا وضعهم في قفص الاتهام وتحت مظلة الرقيب. إننا كبشر نتعامل مع بعضنا البعض بالظاهر يحكمنا أخلاقيات المهنة أو الصداقة أو الانتماء أو الدين، وليست الحقيقة ظاهرة لتقرأها على تعابيرالطرف الآخر فتتحقق مما يقول، بل هي محجوبة خلف الحجب يتطوع اللسان فينقلها إلى مسامعك تنداح في ألق وتخرج مضمخة بابتسامة صفراء أو حمراء أو دموع مستعارة أو والغة في الحزن والضجر لتضيف بعدا اجتماعيا أو ثقافيا مؤثرا قد يغير من قناعاتك أو حكمك على الشيء. وقد يكون التصنع سيد الموقف عند الكثير، يخفون من خلاله مااستقر في واقع الحال أو المقال، بل ان الدين لايطالب بأكثر من ذلك، فالذي يرتاد المسجد يشهد له بالمحافظة على الصلاة ونحسن الظن به ونحمله على الظاهر لكن لو كان متسترا متظاهرا بالصلاح وهو يخفي خلافه فلن نتمكن من الوصول إلى الحقيقة المرة إلا من خلال استقصاء يتطلبه ظرف معين يضعه في خانة الإتهام. إن الستار الحديدي الذي نعيش خلفه يحفل بالكثير من الأحداث والأسرار ولو كشف لنا لتغيرت كثير من المفاهيم ولأحدث فتنا ومآس لايعلم إلا الله مداها وخطورتها. كم من انسان لو كشف أسراره لمجه الناس ونبذوه، وكم من آراء لو سردت لفتنت ولو أنطقت لأهلكت ولو مضغت للفظت. وقد جاء في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان! قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه. هب أن ذلك الستار انقشع فسترى حينئذ مايبهرالعقول ويحير الأفهام لكنه ستار حديدي أنى ينقشع. إننا بالفعل نتجمل بستر الله علينا وإلا لو تعاملنا في العراء وعلى المكشوف لظهرت دسائس نفوسنا وخلجات قلوبنا و استنتاجات عقولنا ولبهرنا وابهرنا وجمعنا وفرقنا. إن من يكشف ستر الله يكون قد حطم قواعد اللعبة وأحدث شرخا عظيما في الجسد الإسلامي لايرتقه إلا العودة إلى حظيرة المجتمع والتخلق بأخلاقة والإنضباط بضوابطه والذود عن كيانه. إن المسلم لايحاسب على خلجات نفسه وايماءات قلبه وبنات أفكاره مالم تترجم إلى قول أو فعل. ووفقا لذلك المفهوم فإن المسلم في علاقته مع الغير يغلب حسن الظن عند ويأخذ الناس بالظاهر ولايستقصي ولا يتتبع بل يكل أمره إلى الله إلا إذا ظهر له خلاف ذلك. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم المنافقين ومع ذلك لم يخبر بهم أحدا إلا حذيفة بن اليمان كاتم سر الرسول عليه الصلاة والسلام في ايماءة وإلماحة إلى ضرورة الحفاظ على وحدة الصف المسلم ،وإن اعتورته آفات أواخترمته منغصات فلا ضير..الزمن كفيل بردمها أو نفيها كما ينفي الكير خبث الحديد، فالإسلام حرص على تكوين صورة جميلة عن المسلم لايجوز خدشها أو الإساءة لها في ميثاق كريم نطق به الهادي البشير عليه الصلاة والسلام ليعمل به حتى يرث الله الأرض ومن عليها: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. وتتجلى أروع صور الستار الحديدي في الرجل الذي علاه أسامة بن زيد بالسيف فنطق الشهادتين غير أن أسامة بادره بالسيف فقضى عليه ليقرر بعدها الحبيب عليه الصلاة والسلام منهجا يجب العمل به : أقتلته بعد أن قال لاإله إلا الله؟ وكررها الرسول عليه الصلاة والسلام على مسامع أسامة حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم. والمتأمل في تلك القصة يكاد يجزم بأن الرجل ماقالها إلا توقيا من السيف ومع ذلك يلومه النبي عليه الصلاة والسلام وينكر عليه. لو كانت النيات ظاهرة للعيان لفقدت الحياة رونقها، فالإسلام يعطي مساحة كبيرة لمراجعة النفس مدركا ضعف البشر أمام المغريات مادامت تتجول في محيط الفرد وترد حياضه، لكنه في الوقت نفسه يحذر من انتشار جرثومة الضعف إلى الوسط المحيط فيتساهل المسلم بأوامر الله بدلا من أن يعظمها، والمسلم خلف الستار الحديدي قد يبتلى بما ينغص عليه عيشه فتجده كاتما لسره صابرا محتسبا مجاهدا نفسه ماوسعه ذلك محتسبا عند الله مايلاقيه من هموم وغموم، وقد يجد المسلم خلف الستار ما يحفزه للقيام بأعمال البر والخير ابتغاء للأجر والمثوبة عملا خالصا لله رب العالمين، وقد يقوم في الليل البهيم في اتصال وجداني مع خالقه والناس نيام. إننا لسنا قضاة ولا حكاما على البشر، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأخذ الناس بظاهرهم ولايستقصي، لكن الإسلام يقرر حقيقة أن الله عز وجل يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور ويقرر حقيقة : ولاتكسب كل نفس إلا عليها، وأن ليس للإنسان إلا ماسعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، ولهذا كلما قويت صلة المسلم بربه زاد له تعظيما وخشية. حتى لو كانت الصورة الظاهرة جميلة أمام الناس، فالإسلام يكشف ماوراء الستار في يوم الدين فيفتضح المتسترون والمنافقون، وكلنا نعرف أن أول من تسعر بهم النار كانوا مرائين في أعمالهم. ليس من حق أحد كائنا من كان أن يقرر من يدخل الجنة ومن يدخل النارإلا الذين أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ذلك من اختصاص الله عز وجل. إننا لانملك الأدوات الصحيحة الكافية للحكم على الناس، وإذا كانت القاعدة الفقهية تقول بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن تصورنا قاصرعن الإحاطة بمقاصد الناس ونياتهم في هذا الخضم الهائل من البشر في أرجاء المعمورة، وفي وجود الستار. قد يعمل الرجل بعمل أهل النار ، كما جاء في الحديث، حتى مايكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وقد يعمل بعمل أهل الجنة حتى مايكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. لو كشف الستار لكانت الحياة شوهاء عوراء زوراء عرجاء شمطاء، فسخائم النفوس وغيظ القلوب وشكوى الزمان وتغير الحال كلها تقبع خلف الستار والناس يختلفون في التعامل معها فمن محتسب صابر ومن متأفف قنوط ومن شاك باك وهكذا. أخيرا لسنا مكلفين بسبر أغوار ماوراء الستار فذاك لله هو أعلم به سبحانه، وأعجب ممن يتكلف تتبع عورات المسلمين ويعريهم ماوسعه ذلك وكأنه حقق انجازا مهما يشكر عليه. إن التشديد في عقوبة كاشف الستار شديدة أليمة تتناسب مع عظم الجرم، ولاأشد على النفس من فضحها على رؤوس الأِشهاد