خالد الغنامي - الوطن السعودية "انتهى الدين بعد ابن باز وابن عثيمين".. عبارة يرددها بعض البسطاء في مجتمعنا السعودي، بكثير من الأسى والحزن، وكأن الدنيا قد أشبهت الشمس في ساعة غروبها أو كقارب أوشك أن يهوي براكبيه من أعلى شلال. لقد شعرت بعميق "انتهى الدين بعد ابن باز وابن عثيمين".. عبارة يرددها بعض البسطاء في مجتمعنا السعودي، بكثير من الأسى والحزن، وكأن الدنيا قد أشبهت الشمس في ساعة غروبها أو كقارب أوشك أن يهوي براكبيه من أعلى شلال. لقد شعرت بعميق الشفقة وأنا أستمع لبعض هؤلاء وهم يتحدثون عن فقدانهم لما ألفوه، لكن الشفقة لم تمنعني من التساؤل: هل لمخاوفهم الدينية ما يبررها؟ هل السبب لهذا القلق والخوف هو أننا نعيش قرناً يشبه القرن التاسع عشر، زمن فلسفة هيجل والدايليكتيك وما فاض عنها من تأييد ونقض؟ لا ليس الأمر كذلك. هل نحن في القرن الثامن عشر، عصر فيزياء نيوتن وإصلاحات جون لوك الدينية والسياسية؟ هل نحن في مشروع إيمانويل كانط لنقد العقل الخالص والعقل العملي؟ لا، ليس الأمر كذلك. هل نعيش في قرن كالقرن السابع عشر في أوروبا، عصر هجوم العقل البشري على الدين واستكناهه والتشكك فيه، هل نحن في عصر الفلاسفة سبينوزا وباسكال وثورة النزعات المادية في تفسير الكون؟ لا ليس الأمر كذلك. هل عصرنا يشبه عصور النهضة في أوروبا وحقبة توما الإكويني وحركات الإصلاح الديني ومارتن لوثر في القرن السادس عشر؟ "لاء" كبيرة، لم يصل الأمر إلى هذا، لم يحدث شيء من ذلك، كل ما حدث أن بعض رجال الدين بدؤوا في إظهار قناعاتهم الشخصية التي تتعلق بمسائل تمس حياتهم الشخصية وحياة الناس بعامة، وبدؤوا في التعبير الصريح عن تلك القناعات ودعوة الناس إليها، بعد فترة من الصمت، سبقتها فترة من المراجعات، والقراءة في خارج النسق. كثير من بسطاء الناس يكادون يشدّون شعورهم حسرة أن رجل دين عبّر عن قناعته الشخصية حول الفن والموسيقى، آخرون طالهم كثير من الشتم والتوبيخ والاتهام لمجرد جلوسهم مع النساء، وهذا في تصوري حكم قاس، وتصور غير صحيح للمشهد، وفي النهاية حكم مغلوط. الشيخان الفاضلان ابن باز وابن عثيمين فقيهان ولدا وعاشا بعد 1400 سنة من نشوء الدين الإسلامي، وكان الإسلام موجوداً قروناً طويلة قبل أن يولدا، وفي كل حقبة من أحقاب الإسلام كان له مفتوه وفقهاؤه، وسيستمر الدين بعد وفاتهما بلا شك، مع دعواتنا لهما بالرحمة والشكر لهما على كل ما بذلاه من خير. كل هذا الذي سبق، قادني إلى هذا الحديث الذي أود أن أتحدث فيه اليوم، أود أن أتحدث عن ماهية رجل الدين، ما معنى أن نقول فلان رجل دين، فالذي أعرفه من قراءتي لتاريخ أوروبا أن الناس كانوا يحرصون على أن يكون ابنهم طبيباً، فإن فشل في ذلك أرسلوه ليدرس اللاهوت فيكون رجل دين، فإن فشل في ذلك رضوا له أن يكون صاحب صنعة يعيش منها، إذن في نهاية المطاف كانت المسألة في أوروبا تجرد مهنة بشرية برغم بعدها الديني. هناك حكم قاس ينزله الناس ورجال الدين أنفسهم عندما يتم حديث الكل عن تعريف هذا المصطلح "رجل الدين" وبرغم كوننا في العالم الإسلامي نحاول جاهدين أن نرفض هذا المصطلح وذلك حينما نقول إنه ليس في الإسلام رجال دين، وبرغم كوننا نفتخر على الديانة الكاثوليكية بأنه لا يوجد في الإسلام ذلك السطر الذي يجب أن يقوله كل كاثوليكي لكي يكون كاثوليكياً بحق، ذلك السطر الذي ينص على أن صاحبه يؤمن بالكنيسة الكاثوليكية ويعترف بأنها "ظل الله في الأرض" إلا أننا برغم هذا الاختلاف في التنظير نعود فنتفق في التطبيق، بحيث يصبح رجل الدين المسلم هو ظل الله في الأرض فعلاً، وننسى كل مفاخراتنا بأن الإسلام هو دين اللاواسطة وننسى كل كلامنا عن العلاقة الخاصة الحساسة بين الإنسان وربه. إلا أن ما يحدث اليوم له جانبه الإيجابي والذي سيخدم الدين كما سيخدم الحياة نفسها، لأنه سيكون من شأنه إعادة النظر في تلك الهالة الوهمية التي وضعت لإنسان (عادي) إنسان يحب ويكره، يضعف ويقوى، يقف يوماً موقفاً عظيماً نبيلاً، ويقف غداً موقفاً على النقيض من ذلك، نراه يوماً في شجاعة الفرسان، ونراه يوماً عكس ذلك، كل هذا يسهل تصوره لو أعملنا المنطق ساعة، الأمر ببساطة، هو أن رجل الدين إنسان في نهاية المطاف، بكل جمال الإنسان وبكل أخطائه، بكل تناقضاته، بكل حسناته وسيئاته، إذا أسقط منطق العقل كل تلك الأوهام، فلن يكون هناك مشكلة على الإطلاق.