عبد الرحمن الحبيب - الجزيرة السعودية كنتيجة طبيعية لارتفاع سقف حرية التعبير، تزخر ساحتنا السعودية بحراك فكري تتواجه فيه بعض التيارات.. الإشكالية أن ثمة من يدور في حلقة مفرغة من البراعة اللفظية والمقالية عبر شتائم متبادلة واصطفافات مبالغة في التمترس.. هذا التمترس المتقوقع على الذات والمتربص بالآخر هو نتيجة لما يمكن أن اسميه طريقة تفكير العربي المقهور. فما تمر به المنطقة العربية من حروب وأزمات وقمع وتخبط في مشاريع التنمية والتحديث.. تبدو عصية على الفهم. ذلك جعل صورة عالمنا العربي في أذهاننا عالماً لا معقولاً، ما ساهم في إنتاج طريقة في التفكير لا عقلانية.. ثمة علاقة سيكولوجية تضافرية بين العجز عن التأثير في الواقع والعجز عن فهمه، فالذي لا نفهمه نلغيه من أذهاننا، والذي نلغيه من أذهاننا نعده غير موجود، وذلك على الطريقة التحليلية « الذي لا نراه لا نعده موجوداً» للمفكر بودريار فيلسوف التداخل بين الحقيقي وبين التصورات والتشبيهات خصوصاً مع تطور الصور الإعلامية في التلفزيون والإنترنت والسينما. ومن هنا ينفصل العالم الخارجي عن أذهاننا في جزء كبير من الثقافة العربية؛ وأي محاولة للفهم تغدو مرهقة لأنها مواجهة مربكة مع الذات تحتاج إلى إعادة ترتيب قاسية لما اعتدنا عليه من سكون ورثناه منذ قرون. بدلاً من ذلك، يطلق العربي المقهور العنان لخطابه العاطفي الحاد كردة فعل الضعيف اليائس عندما يعبر عنها بنوبة غضب طفولية، على حد تعبير رافائيل باتاي في كتابه (The Arab Mind). نفسية المقهور لا طاقة بها على التحليل المتأني، المقهور يعيش لحظة أذى يريد الفكاك منها سريعاً، فيحمي ذاته غريزياً لكي ينفصل ذهنياً عن الواقع الميؤوس منه. وبطبيعة الحال، هذا الانفصال هو جزئي، فالواقع ماثل أمامه لا مهرب منه! بعد أن ينفي المقهور سيكولوجياً وجود الواقع المعاش في ذهنه يستبدله بواقع تخيلي.. من واقع وجود إلى واقع وجدان.. وهذا قد يفسر جزئياً كيف يعشق كثير من المثقفين العرب تبني النماذج المثالية (التراثية أو الغربية) غير القابلة للتطبيق، مع الإكثار من استخدام المصطلحات الوجدانية والشعارات الايديولوجية والشخصية والتقليل من المصطلحات الواقعية والموضوعية.. فالمسألة ليست في التطبيق أصلاً إنما في راحة الذهن! الحوار مع الآخر ليس مجرد محاورة ميكانيكية بل كيميائية، فالآخر يثير حالة استفزاز داخلية، أو كما قال سارتر في أحد تجلياته «الآخرون هم الجحيم».. إنه يفضح أزمتي مع نفسي ومع المحيط، فيأتي دفاعي النفسي المتوتر لتجنب تعرية ذاتي المقهورة التي يفضحها الآخر، فتظهر أهم سلوكيات المقهور: الانكفاء على الأنا (الفردية والجماعية). وحين يتفاقم الانكفاء وتتراكم انفعالاته وتتضخم، ينفجر في أول خلاف في حواره مع الآخر.. محيلا المخالف من حالة وجود إنسانية حيوية إلى كيان جامد يبرر له هجومه عليه.. أو كما ذكر مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور: يصبح العنف هو الوسيلة الأكثر شيوعاً لتجنب العدوانية التي تدين الذات الفاشلة بشدة، من خلال توجيه هذه العدوانية إلى الخارج بشكل مستمر، أو دوري، كلما تجاوزت حدود الاحتمال الشخصي.. أوضح أن مظاهر النفسية المقهورة في راهننا الثقافي يتمثل بهيمنة الحالة الانفعالية على طريقة التفكير وصناعة الفكرة، حيث يتم إنتاج الأفكار بما يرضي الذات المنكفئة على نفسها. ولا تقف صيرورة الانكفاء عند تبجيل الذات المفكرة، بل تتعداه إلى طمس فكر الآخر منتقلة إلى عدوان لفظي على فكره، لا يلبث أن يتطور إلى إعلان العدوان المادي، كالمطالبة بمحاكمة كاتب وإيقافه من الكتابة، أو بفصل مدرس من عمله، أو بحجب موقع شيخ أو ناشط من الإنترنت.. ولا تكتفي هذه الحالة بالنفي الفكري بل تتطور إلى نفي الشخصي، فما إن يحتدم الحوار حتى يتفاقم التأزم الفكري إلى شخصنة المواضيع مع قائمة بالاتهامات المعدة سلفاً، ويتم خلال ذلك تحويل الآخر إلى رمز للشر مقابل الخير الذي لدى الأنا.. وبدلاً من أن نواجه الأزمة الفكرية وتحسين الواقع المعاش الذي نناقشه أصبحنا نواجه بعضنا بعضاً كأفراد وكجماعات! لا مشكلة في الانتماء لفكر جماعة فهو ظاهرة إنسانية طبيعية، إنما هذا الانتماء قد يتحول لدى الإنسان المقهور إلى دفاع متوتر يسيطر عليه التعصب الأعمى لمفردات ومقولات الجماعة (التيار، الحركة) وعلو شعاراتها الايديولوجية وليس منطقها الداخلي أو تطبيقاتها الواقعية، لتبدو أهم مظاهر الأزمة الحوارية لدينا: قدسية شعارات التيار الذاتية وشيطانية شعارات التيارات الأخرى. جزء كبير من الحوار يتم حول الشكل الظاهري للمصطلحات والشعارات وليس حول فحواها أو محتواها في سياقها. فكل طرف يتخندق حول أشكال (صور) المصطلحات رافضاً الخروج من مبنى المصطلح إلى معناه مهما تقاطعت السياقات وتداعت التطورات. ويصاحب هذا التخندق هجوم على أشكال مصطلحات الآخر. فتغدو الفكرة في نظر السلفي مدعاة للتحلل والتفسخ والتغريب، إذا خرجت من كاتب ليبرالي، لأنها فقط ليبرالية.. والعكس صحيح، تغدو الفكرة متخلفة ورجعية وظلامية في نظر الليبرالي إذا خرجت من الطرف الآخر السلفي مثلاً. الفيصل هنا بين الطرفين هو رمزية المصطلحات المستخدمة وصوريتها والشعارات المرفوعة وهوية الكاتب الفكرية، وليس موضوعية الفكرة.. وهكذا تتحول قضايا خلافية عادية إلى قضايا مصيرية مثل نقد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو رياضة البنات في المدارس أو تعليم اللغة الإنجليزية للسادس الابتدائي، أو توسعة الحرم. الدفاع والهجوم، في مثل هذه الحالات، يتم لصالح رمزية الحالة وليس للحالة ذاتها، فتتحول المسألة من صراع أفكار وحقائق إلى صراع كلمات وشعارات.. مما يذكرني بوصف إدوارد عطية: «انه من صفات العقل العربي أن يسيطر عليه بالكلمات أكثر من الأفكار، وبالأفكار أكثر من الحقائق». المثقف العربي المقهور سيكولوجياً (سلفياً كان أو حداثياً) قد لا يستطيع أن يناقش، بل يدافع ويهاجم بضراوة دون أن يهتم بمضمون النقاش كثيراً أو بواقع حال القضية محل النقاش.. إنه يعيش معركته الداخلية المتأججة.. هو متأزم داخلياً منكفئ على ذاته الملتهبة الفردية أو الجماعية، ناقم على العالم الخارجي منكر لوجوده.. يفرح بالأزمات وبتصعيدها، راجياً منها أن تنتج فوضى خلاقة لعلها تعيد تنظيم الأشياء بما يناسب خياله لنموذج مثالي غير قابل للتطبيق.