لعل في التصريحات الأخيرة للدكتور السعيدي، رئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى، التي تجلب الاستياء والكسوف، ما يُرشح إلى ضرورة فتح الأضابير، والشروع في توثيق رواية ما لم يروه التاريخ: عمّا جَرَى في جامعة أم القرى؟! استمرت كلية الشريعة، نواة جامعة أم القرى، ردحاً طويلاً من الزمن، مُنسجمة مع هدف إنشائها ككلية إعداد للمعلمين، تُخرِّج الطلاب في تخصصيّ الشريعة والتربية حصراً. حتى إنها بقيت على حالها ذلك بعد أن أُلحِقت إدارياً بجامعة الملك عبدالعزيز، عام 1971، لتحمل اسمها الدلالي الشهير: "شطر مكة". وحين دعا الأهالي، جلالة الملك خالد، على هامش أحد الاحتفالات الأهلية عام 1980، إلى ضرورة إنشاء جامعة مستقلة في مكة، لم يدر في خلدهم ولا خلد المليك من قبلهم، أن من سيتصدى لتلك المَهمة، إنما سيقوّض مناط قيامها، وأنه سيطلقها، بقوائم عرجاء. لقد صدرت الجامعة، بمباركة من مجلس الجامعة، بصيغة مُحافظة على بنيتها التقليدية وبرامجها السكولاستيكية المحصورة في كليّتين عتيدتين: علوم الشريعة والدعوة، ناهيك عن برامج تكميلية في اللغة العربية والعلوم الاجتماعية. لقد لعب أول مدير للجامعة الدكتور راشد بن راجح الشريف، دوراً محورياً مشهوداً في حراسة النسق التقليدي، وفي تفويت أية مبادرة تحديث وتنويع للبرنامج الأكاديمي المُعتمد. كان الدكتور راشد بن راجح، عَلماً مكياً صاعداً، وشخصية معرفية رفيعة التحصيل العلمي، مُتعددة المواهب، ولكنها حين تسنمت مهام الإدارة، أفصحت عن مركزية باطشة، وأوتوقراطية شديدة الصرامة. لقد عطّلت قبضته الحديدية كل نزعات التحديث، وحين أزف رَحيله، ودقت ساعة التغيير، تنازل الدكتور ابن راجح جسداً، ولكن سياساته استمرت عبر لوبي داخلي نشأ وتغوّل في عهده، شكّل بعيد رحيله امتداداً عضوياً، وقف كحجر عثرة إزاء أي تغيير. كانت كلية الدعوة وأصول الدين قد تحولت بدورها إلى تكأة للتقليديين المُسيَّسين الذين يضيقون بأي مختلف. الذين سيتحالف مدهم باختلاف أطيافه من سرورية وجاميّة، إلى التخندق ضمن قوى الرفض والمُمانعة. كانت الجامعة في أواخر عهد الدكتور ابن راجح (أوائل 1995– الموافق 1416)، قد شهدت ذروة التعصّب، وغاية انتهاكات التقاليد الأكاديمية الرصينة. في جلسة مناقشة شهادة الماجستير، رَفَض الدكتور علي بن نفيع العلياني عميد كلية الدعوة منح الدرجة العلمية للطالب الإمارتي عيسى بن مانع الحِميري، لاشتمال دراسته على اقتباسات من مصادر "صوفيّة" ، ولم تشفع التدخلات التي أطلقها الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان بوجاهته لثني القائمين عن قرارهم. وفي نفس العام سيُغالي الدكتور سفر الحوالي في عداوته مع الشيخ محمد علوي مالكي، وسيصدر كتاباً مُشيناً تَزَامَن مع محاولة الاعتداء الشهيرة، باسم "المالكي: مُجدد ملة عمرو بن لُحي"، وستصطف ثلة من أساتذة كلية العقيدة في سِجال عقائدي موتور، انحرف تماما عن أهداف العملية التعليمية وشرف الدعاوى البحثية، حُشدت له المصادر والجهود والأموال، حتى إنها أُغدقت على أحد أقارب المالكي، سمير خليل المالكي، ليُكسِب المشروع مزيداً من مصداقيته. بعد أن سيطرت الفعاليات التقليدية على مفاصل الكلية، وأصّلت منهجياً لفكر التحيّز الأيديولوجي والتشدد وإقصاء الآخر، ارتكزت على ذات أرضية الدعوة، في تعطيل المبادرات التحديثية ذات الأساس الإداري الصرف. هكذا لقد لعب أستاذ العقيدة الدكتور سفر الحوالي، ورفاقه الدكاترة؛ علي العلياني، محمد بن سعيد القحطاني، وأحمد بن سعد الغامدي، أدواراً قلقة متفاوتة، كبحت حتمية التحديث ومانعت تطلعات التنوير. كان تعيين الدكتور سهيل حسن قاضي مديراً للجامعة في عام 1995 حدثاً مفصلياً بكل المقاييس. وكأن قاضي قد أطلق عهداً على نفسه، لتطوير الجامعة ونسف منطق الأوهام، المتراكمة دهوراً، التي تجثم على أنفاس المُتطلعين. كانت قيمته تكمن في تحرره من سلطة التقليد، وانحيازه النزيه للمعرفة؛ بجوهرها ومنطقها وآلياتها. وفي مساعيه للقضاء على التعنت الشديد المتمركز في كلية الدعوة وأصول الدين، وتفتيت غلواء كوادرها وتغوّل أطروحاتهم وأنشطتهم، عَمِل قاضي، على خطة من شقين. سَعى أولاً إلى دمج كليّتي الشريعة والدعوة، لترشيد حجمها وإعادتها لإطارها الطبيعي مستعيناً بإحصاءات الخدمة المدنية ومتطلبات سوق العمل، كما استقطب مجموعة كوادر من خارج التيار السائد، من أمثال؛ الدكاترة محمد طاهر ولي، قاسم الأهدل، وصبغة الله غُلام نبي، راهَنَ عليها لإحداث توازن، بشكل لا يلغي الفريق القائم، ولكن يكفل ترشيد حدّة الغلو والتعصب. لقد قرر الدكتور قاضي، في سبيل "تمدين" مفاصل الجامعة، وربط مُخرجاتها بواقع التنمية وروح العصر، أن يُخرج الدراسات والمبادرات المجمدة من الأدراج، ويُطلقها ، وحين أرسل إلى مجلس التعليم العالي، يستأنسهم في إقرار كلية للطب والعلوم الطبية، ومن بعد شد وجذب بيروقراطي عتيد، وافق المجلس، دون التزام بتوفير وظائف أو بدلات إضافية، وهو ما اعتمده القاضي على الفور، مُستعيناً بحقيقة أن السنوات التحضيرية لا تستلزم مُخصصات إضافية. ولم تكن جبهة الوزارة هي كل ما يتعيّن على مدير الجامعة خوض معاركه عليها، إذ كانت وتيرة "الإنكار" لدى فريق الممانعة تتصاعد بدورها بتغوّل، حتى أفضت إلى اتصال فضيلة الدكتور صالح اللحيدان، بمدير الجامعة، لتذكيره بأن جامعة أم القرى هي "جامعة إسلامية" ، لا تتسق "بدعة الطب" مع توجهات إنشائها! لقد كان الدكتور قاضي أيقونة "التمدين" بجامعة أم القرى على الإطلاق، فهو علاوة على إطلاق برامج الطب، وبناء معامل العلوم الهندسية والتطبيقية، جلب للجامعة الاعتمادات الأكاديمية، وقدم لها وثيقتها "الاستراتيجية" التي جوبهت حينها بمصاولات عدة. أما أصعب المعضلات التي واجهها بشجاعة أدبية فكانت مسألة ربط تخرّج طلاب الدراسات العليا بحفظ سُور البقرة وآل عمران والنساء، نقلاً عن جامعة الإمام. كان عدد الخريجين المتوقفين عند مشروطية "التسميع" قد تراكم إلى 102 طالب، كلهم مُسجلون "اسمياً" في جداول المشرفين، الذين كانوا بدورهم من المستفيدين من الوضع القائم، كون النصاب الفِعلي سيخف عن كواهلهم. وكما كان هذا يغري بالفوضى والفساد، كان يُنفر الطلاب في القرآن الكريم. لقد استشعر الدكتور قاضي بحزمِة الإداري، وحسّه التربوي، خطر ذلك، فعمد إلى تغيير لجان التسميع أكثر من مرة، قبل أن يُرسل بطلب مباشر إلى وزير التعليم العالي يدعوه لإلغاء الشرط ، وحين جاءت الموافقة، وفي مجلس عُمداء الجامعة مع معالي خالد العنقري، سيتفاجأ الجمع بتراجع الوزير، ما دعا قاضي للتمسك برأيه مُحاججاً بأن أغلب المتحلقين حول طاولة الاجتماع، من وزير ومدير جامعة وعمداء، هم دكاترة بلا "تسميع"، وليس فيهم من يحفظ السُوّر الاستفتاحية سوى الدكتور باجودة. لكن فرسان فريقه سيخذلونه، ليصّر الوزير على موقفه! وان كان قاضي قد تغلّب على معضلته لاحقاً باقتناص قرار من مجلس الجامعة بتعديل الشرط إلى "الاكتفاء بأي ثلاثة أجزاء"، كاسباً معركته أخيراً، فإنه إلى ذلك حَمَل على عاتقه عبء الخصومة ثقيلاً. وكما عانى الدكتور قاضي من لوبي المُمانعة وتأثيرهم على صاحب القرار، عانى القدر ذاته من "استندال" جماعته ، حتى دَفَع ثمن كفاحه الوطني غالياً، بإعفائه من منصبه خلال دورته الثانية، ولم يكن ليضيره ذلك، وهو قد سجّل اسمه لامعاً في صحيفة الرُواد المُصلحين.