القضية التي تشغل الرأي العام العراقي هذه الأيام هي قرار ما يعرف ب"هيئة المساءلة والعدالة" بمنع 499 مرشحا من المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي ستجري في شهر مارس القادم. من أبرز الأسماء التي تضمنتها قائمة الممنوعين النائب صالح المطلق رئيس "الجبهة العراقية للحوار الوطني". السبب المعلن لقرار الهيئة ما تقول إنه ثبت لديها من انتماء الممنوعين إلى حزب "البعث"، والترويج لأفكاره. اللافت أن قائمة الممنوعين شملت، حسب بعض المصادر، وزير الدفاع، عبدالقادر العبيدي، من "قائمة ائتلاف دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء، نوري المالكي، والمتحدث باسم الحكومة، علي الدباغ. قبل ذلك انشغل العراق، بقيام القوات الإيرانية بالاستيلاء على حقل "فكة" النفطي على الحدود بين العراق وإيران في ديسمبر الماضي. وقبل هذا كانت الأزمة الحادة التي فجرها المالكي، رئيس الوزراء، مع سوريا على خلفية التفجيرات الكبيرة التي هزت المنطقة الخضراء وسط العاصمة العراقية، وذهب ضحيتها مئات بين قتيل وجريح. كان ذلك في شهر أكتوبر الماضي. وقد اتهم المالكي حينها عناصر بعثية تقيم في سوريا بأنها كانت وراء التفجيرات، وطالب دمشق بتسليم هؤلاء للحكومة العراقية. وحين رفضت سوريا هذا الطلب، هدد المالكي بالذهاب إلى الأممالمتحدة للمطالبة بتشكيل محكمة دولية للتحقيق حول دور سوريا في زعزعة الاستقرار في العراق. هذه ثلاثة أحداث متتالية تمثل عينة صغيرة عشوائية يمكن القول إنها تعكس طبيعة المشهد السياسي العراقي، ليس فقط تحت الاحتلال الأميركي، وإنما تحت حكم النخبة الجديدة التي جاءت مع الاحتلال. تأتي أهمية هذه الأحداث من حقيقة أن مواقف الحكومة العراقية إزاء كل واحد منها تكشف أشياء عن توجهاتها إزاء إيران من ناحية، وإزاء الآخر في الداخل العراقي، من ناحية أخرى. فبعد تفجيرات الأربعاء الأسود في نوفمبر اتخذت حكومة المالكي موقفا متشددا من سوريا، وأخذت تطلق التهديدات يمينا وشمالا، في محاولة للضغط على دمشق للاستجابة لمطالبها. وقد اتخذت الحكومة الموقف المتشدد نفسه في موضوع "اجتثاث البعث". وكان آخرها المذبحة السياسية التي تعمل عليها "لجنة المساءلة والعدالة" بمنع الخصوم السياسيين للطاقم المهيمن على الحكم في بغداد من المشاركة في الانتخابات القادمة. لكن على العكس من موقفها من سوريا، ومن الخصم السياسي في الداخل، جاء موقف الحكومة من استيلاء حرس الحدود الإيراني على حقل فكة النفطي، هينا لينا، وأكثر حرصا على علاقة الجوار. وهذا رغم أن حكومة طهران لم تراع في إقدامها على الاستيلاء على حقل النفط حساسية هذه الخطوة بالنسبة لحليفها في بغداد. لم يتكلم المالكي كثيرا عما حدث، وترك لوزرائه تولي مهمة تسوية الأمر بهدوء. الفرق بين الموقف من خصوم الداخل ومن سوريا من ناحية، ومن التجاوز الإيراني من ناحية أخرى، يوحي بأن كل ما يقال عن العلاقة بين العراق وإيران، وعن حضور الحس الطائفي داخل النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال، ليس بعيدا عن الحقيقة. فبالنسبة لخصوم الداخل يلاحظ أن الحكومة العراقية ذهبت بعيدا في توجيه التهم لكل خصم أو منافس سياسي كانت له، أو يبدو أنه كانت له صلة ما بحزب "البعث"، وبغض النظر عن الطبيعة التي كانت عليها هذه الصلة. وربما كانت صلة لا تخرج كثيرا عن الانتماء العادي للحزب لمجرد أنه كان الحزب الحاكم، وذلك لتأمين فرصة عمل، أو لتفادي ملاحقة الأجهزة الأمنية حينها. وربما كانت صلة تنبع من الإيمان بعقيدة الحزب والإخلاص له دون التورط في تجاوزات أجهزة النظام. ثم هناك الصلة التي تترتب عليها المشاركة في عمليات القمع والانتهاك التي أشتهر بها نظام "البعث" عندما كان يحكم العراق. هذه وغيرها فروق تتطلب الحيطة والحذر، وتتطلب حسا سياسيا رفيعا، ورؤية قانونية مستنيرة تكفل للجميع حقه في العدالة، وعدم الاندفاع وراء توزيع التهم لمجرد الرغبة في تصفية حسابات مع خصوم سابقين، أو تعبيرا عن مشاعر انتقامية توجهها انتماءات طائفية. لكن يبدو أن هذه المعايير لا أهمية لها في عرف الحكم الحالي في العراق. ومن هذه الزاوية لا يختلف هذا الحكم عما كان عليه حكم النظام السابق. أما بالنسبة للاعتداء الإيراني، فقد أثار موقف الحكومة العراقية استغراب الكثيرين، خاصة لجهة قدسية التراب الوطني، وأن حقل الفكة هو حقل عراقي، وليس محل نزاع بين الدولتين، حسب اتفاقية الجزائر. ثم إن إقدام إيران على إثارة موضوع الحدود، وخاصة موضوع اتفاقية الجزائر بهذا الأسلوب، يتضمن تهديدا مبطنا بأن عزلتها الدولية والإقليمية لا ينبغي أن تغري حلفاءها في بغداد بانتظار تنازلات إيرانية بشأن تثبيت هذه الاتفاقية. والأغرب من ذلك أن موقف حكومة المالكيٍ المهادن لإيران يأتي في ظل استمرار تصاعد الاصطفافات والنزاعات الطائفية، وعلى خلفية كانت ولا تزال تلقي بظلالها على شرعية التغيير السياسي الذي جاء على يدي الاحتلال، وشرعية النخبة الحاكمة التي فرضها الاحتلال. أضف إلى ذلك علاقة كل من "المجلس الأعلى"، و"التيار الصدري"، و"حزب الدعوة" الذي ينتمي إليه المالكي، بطهران، وهي علاقة متينة، وموقع هذه العلاقة من تحالف هذه القوى العراقية مع واشنطن في إسقاط النظام السابق، ودور إيران في هذا التحالف وفيما حدث بعد ذلك. يبدو أن الحكومة الإيرانية تعرف عن حلفائها العراقيين أكثر مما يعرف الآخرون، وإلا فإن إقدامها على احتلال أرض عراقية في ظروف مشحونة بالطائفية، والاحتلال، وبالشبهات بما في ذلك حجم الدور الإيراني وتدخلاته في الشأن العراقي، وعلاقاته مع الطبقة الحاكمة، كل ذلك كان من المفترض أن يجعل من خطوة الاحتلال الإيرانية نوعا من المغامرة غير المحسوبة. لكن المفترض منطقيا لا يعكس دائما الواقع على الأرض. ربما قيل إن ورقة "اجتثاث البعث" ليست فقط للانتقام، وإنما أيضا للابتزاز بأمل تحقيق مكاسب سياسية في الانتخابات القادمة، وزيادة حظوظ المالكي للاحتفاظ برئاسة الحكومة بعد ذلك. لكن حتى لو أثبتت نتائج الانتخابات هذه الرؤية، فإنها تثبت أيضا رداءة الثقافة السياسية "الجديدة"، ورداءة النظام السياسي الذي جاء ليحل محل النظام السابق، خاصة وأنه بذلك يؤكد فشله في إخراج العراق من مستنقع الانقسامات الطائفية، ومن إدمان لعبة الانتهاكات التي لا تعترف بحرمة القانون، ولا بقدسية الحقوق السياسية. ولعله من الواضح أن بقاء الوضع على هذه الحالة يفقد كل ما يقوله أقطاب الحكم الحالي عن النظام السابق أدنى درجات المصداقية، ليس لأن كل ما يقولونه غير صحيح، لكن لأنه قول حق يراد به باطل لا يقل سوءا عن سابقه. وهذا واضح من حقيقة أنه بعد أكثر من ست سنوات من الاحتلال لا تزال حكومة العراق في حاجة لاجتثاث البعث، ولا تزال أقرب في مواقفها السياسية إلى إيران منها إلى المكونات السياسية المحلية في العراق. وفي هذا الإطار تتفق حكومة المالكي مع إيران في أربعة أمور: اجتثاث البعث، وتأمين نظام سياسي طائفي، وتحويل العراق إلى عمق استراتيجي لإيران، وترسيخ المرجعية الدينية للعملية السياسية، كما هو الحال في إيران. وهذا يعني أن العراق خرج من استبداد البعث، إلى استبداد الطائفية، والارتهان لمصالح الخارج.