يعجب المرء من كثرة عدد الدعاوى القضائية المرفوعة في أروقة المحاكم لدينا والمتصلة بالحقوق الضائعة للزوجة بسبب إهمال زوجها. مصدر العجب أننا في المملكة وفي ظل تحكيم الشريعة النقية الغراء يفترض أن نكون الأقل بين شعوب العالم في مثل هذه القضايا ولكن وكما يبدو فقد تسلل إلينا الخلل حتى في هذه المسائل وربما أشغلتنا أولويات أخرى عن ضبط هذا الموضوع الهام. معظم القضايا التي أود التحدث عنها في هذه العجالة تتصل بمطالبة امرأة مطلقة بحقوقها الضائعة من زوجها السابق، وأحيانا يقع ذلك حتى قبل الطلاق، أي أثناء العشرة. ونسبة كبيرة من هذه القضايا تكون فيها الضحية زوجة ثانية أو ثالثة. وكون التعدد هو السبب وراء معظم هذه القضايا فاسمحوا لي أن أركز حديثي عنه. الحقيقة أن الزواج من ثانية أو ثالثة ورابعة وإن كان مشروعاً بوضوح في القرآن الكريم إلا أنه أتى مشروطاً بوجوب توفر العدل بين الزوجات وإلا فإنه لا يجوز. يقول تعالى: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا". وفي آية أخرى يقول جل وعلا: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما". والعدل الذي تحدث عنه الله سبحانه وتعالى هو العدل في كل شيء من مال ونفقة وعدل في المعاملة والمحبة ويمتد هذا المفهوم أيضاً إلى ذرية هذه الزوجة أو تلك. وإذا استثنينا مسألة العدل في الحب كونها أموراً شخصية لا يمكن التحقق من ممارسة العدل بها، يتضح أن هذه التشريعات الإلهية أو "الشروط" التي نؤمن بها قد تركت للرجل وحده فقط بلا مراقبة قانونية ليتصرف معها كيفما يريد وب "حسب ذمته". الدليل على غياب المراقبة أن مأذون الأنكحة الذي يقر الزواج من ثانية أو ثالثة لا يتحقق فعلياً من ملاءة المتزوج المالية ولا يستطلع أي سيرة ذاتية عن هذا الرجل الذي ربما قد يكون من أصحاب السوابق في ماضيه بل وربما يوجد لدى الجهات القضائية حالات مرفوعة ضده ولم يتم البت بها بعد. هنا أرى مكمن الخلل المتمثل في دور الجهات الحكومية الرقابية والمشرعة وهي المسؤولة عن إقرار الزيجة وصحتها. هذا التقصير وضعنا في الواقع أمام النتائج وأغفلنا المسببات ودراستها ومتابعتها والبحث عن أي حلول لتفادي وقوعها مجدداً مراراً وتكراراً. يقول لي أحد الإخوة الأفاضل وهو ممن يحتم عمله الخيري عليه الولوج في معرفة تفاصيل هذه القضايا، يقول إن هناك العديد من حالات هروب الزوج بعد الزواج تاركاً خلفه امرأة إما مطلقة أو معلقة والاختفاء وبالتالي التنصل من دفع أي نفقات والتنصل من أي مسؤوليات وترك المرأة وأطفالها في العراء. المذهل هنا ليس هروب الزوج بل المذهل بحق هو عدم تجريم هذا الزوج عند هروبه وبالتالي عدم ملاحقته قضائياً. فالقاضي الذي يشرف على مثل هذه القضايا لا يصدر أي أوامر للشرطة بالبحث عن الرجل الذي ربما أنه لم يختف كما نتصور وقد يكون من قاطني نفس الحي ولكنه فقط خرج من المنزل ولم يعد. فهل بحثنا عن سارق السيارة وتعميم مواصفاته في سبيل التمكن منه ومعاقبته دليل على أن هذه السيارة "الآلة" أهم لدينا من الإنسان؟ لماذا لا تتم ملاحقة سارقي الحياة وقاتلي الأمل وإيقافهم عند حدودهم من خلال إدانتهم ومعاقبتهم؟ كيف نستمر في شيوع هذه الظاهرة إلى هذا الحد من الاستهتار بلا ضوابط؟ من الاقتراحات العملية التي ربما تحتاج إلى بعض التفصيل والتأصيل الشرعي انطلاقاً من سلطة ولي الأمر في تقييد بعض المباح هي تطبيق الجهات الرسمية شرط الملاءة المالية على الزوج المتقدم للزواج وبالأخص إذا كان ينوي الزواج من ثانية أو ثالثة. فشرط الملاءة المالية يعتبر شرطاً معروفاً في التعاملات الرسمية في قطاعات متعددة ونمارسه في نظامنا في المملكة وتنفيذ هذا الشرط يأتي من طرف مستقل وهو البنك. في الحقيقة أن هذا الاقتراح قد يكون مطلوباً وضرورياً في تمادي بعض الأزواج واستهتارهم. كلنا يعلم أن من شروط قبول ترسية المشروع على المقاول هو اطلاع المالك على وثيقة بنكية تصنف هذا المقاول على أنه مقتدر مالياً على التنفيذ. وكما هي حال سارق السيارة الذي أوردته في المثال السابق، نعود ونتساءل مجدداً: هل مشروع البناء أو الصيانة الذي نصر على حصولنا على شهادة ملاءة مالية قبل الموافقة على ترسيته على المقاول أهم من المرأة ومستقبلها وما قد يأتي لها من أطفال؟ وفي جميع الأحوال علينا أيضاً بحث هذه الظاهرة بواسطة المختصين مستخدمين البيانات المتوفرة لدى سجلات الحقوق المدنية وهي الطرف الأول في استقبال القضايا. من المؤكد وجود بيانات إحصائية لدى هذه الدائرة توضح نوع القضايا وعددها وأماكن رفعها ولو تم تناولها وتحليلها بواسطة مراكز أبحاث متخصصة في علوم الاجتماع والشريعة والشرطة لتمكنا مع الوقت أن ننطلق بثبات وخبرة مستقاة في بحثنا عن الحلول والتصدي لمثل هذه الظواهر الاجتماعية المدمرة لكل جميل.