كنا قد تناولنا في هذه المساحة قبل فترة طويلة ما أطلقنا عليه موجة "ما بعد" التي اجتاحت العالم الفكري والسياسي الغربي خلال العقدين الأخيرين والتي تعتقد في نهاية كل ما شهده العالم "القديم" من ظواهر فكرية وسياسية واجتماعية وولادة عالم "جديد" يزخر بظواهر أخرى مختلفة ليس لأي منها خصائص واضحة ولا حتى اسما متمايزا، فكلها مجرد "ما بعد" الظواهر "القديمة". وضربنا أمثلة لبعض تطبيقات هذه الموجة مثل "ما بعد الحداثة"، و"ما بعد الشيوعية"، و"ما بعد الدولة"، و"ما بعد السيادة الوطنية"، و"ما بعد القطبية الثنائية"، وغيرها وصولاً إلى مصطلح "ما بعد الظاهرة الإسلامية" الذي بدأ الترويج له في بعض الكتابات الغربية ثم انتقل لبعض الكتابات العربية خلال الأعوام الأخيرة. ففيما يخص مصطلح وأطروحة "ما بعد الظاهرة الإسلامية"، فإن الملاحظة الرئيسية على الكتابات التي تتبنى هذه الرؤية هي أنها لا تحدد بدقة ما هي تلك الظاهرة الإسلامية التي ترى أننا نعيش الآن في مرحلة "ما بعدها"، حيث على الرغم من تعدد المترادفات التي تستخدم لوصفها مثل "الإسلام السياسي"، و"الحركات الإسلامية"، و"الصحوة الإسٍلامية" وغيرها، فإن عدم تحديد المعنى المقصود به كل منها ينصرف إليها جميعاً. ويترتب على ذلك التعميم والخلط إشاعة الانطباع بأن كل ما يتعلق بالإسلام من ظواهر دينية وسياسية واجتماعية وفكرية قد انتهى أو هو في أقل تقدير في طريقه إلى ذلك. أما عن الكتابات التي تتجه إلى قدر أكبر من التحديد فتتحدث عن "ما بعد الظاهرة الإسلامية"، قاصدة بتلك الظاهرة الجماعات والأفكار والمظاهر الحركية التي ارتبطت بالإسلام وبدأت في الصعود بداخل مختلف المجتمعات والدول المسلمة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، فهي الأخرى بحديثها عن "ما بعد" أو "نهاية" تلك الظاهرة ترتكب نوعاً آخر من الخلط والتعميم اللذين يصعب قبولهما. فتلك الظاهرة الإسلامية، أو لنسمها الحركة الإسلامية لمزيد من الدقة، هي عند أصحاب أطروحة "ما بعد" حركة واحدة متجانسة على تنوع جماعاتها وتفرقها بين بلدان العالم الإسلامي، بحيث تتسم كلها بخصائص واحدة تقع أفكار التكفير والعنف في مقدمتها. من هنا فإن أصحاب تلك الأطروحة يستندون إلى حقيقة ثابتة بدأت في التبلور منذ السنوات الأخيرة للقرن العشرين وهي تراجع معظم جماعات وأفكار وممارسات التكفير والعنف الإسلامية عن مواقفها ومواقعها السابقة، لكي يطلقوا حكمهم المطلق بنهاية كل الحركة الإسلامية متسترين وراء أطروحتهم ومصطلحهم الغامضين: "ما بعد". والحقيقة أن الخلل الرئيسي في تلك الأطروحة وذلك المصطلح ينبع من التعريف المعيب غير الصحيح للحركة الإسلامية باعتبارها شيئاً واحداً متجانساً يتسم بخصائص واحدة تقع أفكار التكفير والعنف في مقدمتها. فتلك الحركة التي لا شك أنها تتعرض لكل ما تتعرض له الظواهر البشرية والتاريخية من تغيرات وتطورات لم تكن أبداً على ذلك النحو المتجانس المصمت الذي يروج له أصحاب أطروحة "ما بعد الحركة الإسلامية". فالأكثر قرباً للدقة وللواقع هو أن تلك الحركة انقسمت دوماً إلى أنواع مختلفة من الجماعات لا يجمع بينهما سوى الانتساب إلى الإسلام مع الاختلاف العميق قبل ذلك وبعده في طريقة هذا الانتساب وقراءة ذلك الإسلام. فهناك الجماعات الدينية المتشددة الأفكار عنيفة السلوك وهناك أيضاً الجماعات السياسية – الاجتماعية المعتدلة التوجهات وسلمية التحركات. وبناء على هذه القاعدة يبدو أن ما يحدث واقعياً للحركات الإسلامية منذ سنوات قليلة وما ينتظرها في المستقبل القريب والمتوسط أبعد ما يكون عن الأطروحات التي تتحدث عن "ما بعد الحركة الإسلامية". فقد تعرضت هذه الحركات المختلفة لعوامل عديدة خلال تلك السنوات أضافت إليها أبعاداً جديدة ووسعت من مداها الجغرافي والبشري والموضوعي بما يجعل أحوالها مناقضة تماماً لما تحتويه أطروحات "ما بعد الحركة الإسلامية" من اعتقاد بنهايتها وبدء اندثارها. فقد اتخذت الحركات الإسلامية شكلاً ومضموناً جديدين مختلفين عما عرفناه عنها خلال العقود الثلاثة السابقة، حيث أدى تحول عديد من الجماعات الدينية العنيفة عن طريق العنف والتشدد إلى مزيد من الاتساع والانتشار للجماعات السياسية – الاجتماعية السلمية. ولا شك أن تأمل حال تلك الجماعات الأخيرة خلال العقد الماضي في عديد من البلدان العربية والإسلامية يوضح أنها استطاعت إعادة توزيع فكرتها الجوهرية المتعلقة بدور الإسلام في التنظيم الاجتماعي والسياسي على عديد من القوى السياسية والفكرية في تلك البلدان، بحيث أضحى من الصعب حصرها في تلك الجماعات فقط، كما استطاعت أن توسع من قاعدة شعبيتها في كل الانتخابات العامة التي شاركت فيها، الأمر الذي يضع شكوكاً حقيقية حول صحة أطروحات "ما بعد الحركة الإسلامية" بالنسبة لها. وتزداد تلك الشكوك عمقاً لدى النظر إلى تحول الجماعات الدينية العنيفة من التركيز على قضايا "الداخل" إلى الاهتمام المتزايد بقضايا "الخارج". فذلك التحول ارتبط بما شهده العالم من تطورات بعد هجمات واشنطن ونيويورك عام 2001 ثم الغزو الأمريكي لكل من العراق وأفغانستان، حيث زاد من رقعة وجود وانتشار تلك النوعية الجديدة من الجماعات العنيفة التي تتبنى فكرة قتال "العدو البعيد" الأجنبي الذي أتى ليحتل أجزاء من ديار الإسلام ومعه "العدو القريب" الذي ترى أنه يتعاون معه. ولا شك أن المناخ الذي ساد العالم خلال فترتي ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش قد زاد القوة الدافعة لانتشار تلك النوعية من الحركات الإسلامية العنيفة، الأمر الذي يضع شكوكاً حقيقية حول أطروحة "ما بعد الظاهرة الإسلامية" بالنسبة لها أيضا.