د. أحمد بن صالح الزهراني - الاسلام اليوم من أعجب السير التي مرت عليّ سيرة الإمام الأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكثيراً ما أقول إنّها أولى بأخذ العبر منها من سيرة الخلفاء الراشدين، لا لمزيد فضل له على أحد منهم، بل ولا أي من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لأنّها جاءت في فترة زمنية بلغ فيه الفساد مبلغاً عظيماً، سواء ذلك الفساد السلوكي أو السياسي أو الفكري والاعتقادي، ولهذا لما طلب من سالم بن عبد الله أن يبعث ليه بأقضية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أجابه سالم بكلام طويل وقال له ضمن ذك: (وإن عمر عمل في غير زمانك، وأني أرجو إن عملت بمثل ما عمل عمر أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر). إضافة إلى أنّه لم يكن مجرد سياسي عادل، بل كان عالماً إماماً في السنة والشريعة، كما كان آية في التعبد والورع والزهد، وهذا يعني أنّ شخصيته تعتبر مصدر إلهام في نواح كثيرة، ومحل قدوة في أكثر من صعيد. ولأنّه -رحمه الله- كان أمة وحده في ذلك الزمان ليس معه من يعينه من الساسة، حتى قال إياس بن معاوية بن قرة: «ما شبّهت عمر بن عبد العزيز إلاّ برجل صناع حسن الصنعة ليست له أداة يعمل بها، يعني لا يجد من يعينه». لن أطيل عليكم سأقتطف بعض ما جاء عنه مما أعتبره درراً من درر عمر رحمه الله. - في الشريعة كفاية لأهل السياسة: * ابراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي قال: «لما ولاّني عمر بن عبد العزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد، وأسأله: آخذ من الناس بالمظنة، وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة، وما جرت عليه عادة الناس، فكتب إلي أن آخذ الناس بالبينة، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله!! قال يحيى: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد، وأقلها سرقاً ونقباً». * كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد قال: «جاءني كتابك تذكر أن قبلك قوماً من العمال قد اختانوا مالاً فهو عندهم، وتستأذنني في أن أبسط يدك عليهم؛ فالعجب منك في استئمارك إياي في عذاب بشر، كأني جُنّةٌ لك، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله، فإذا جاءك كتابي هذا فانظر من أقرّ منهم بشيء فخذه بالذي أقرّ به على نفسه، ومن أنكر فاستحلفه وخلِّ سبيله؛ فلعمري لأن يلقوا الله بخياناتهم أحبّ إليّ من أن ألقى الله بدمائهم والسلام». - الأمن الاقتصادي قبل كلّ شيء: * كتب بعض عمال عمر إليه: إنك قد أضررت بيت المال أو نحوه، فقال عمر: «أعطِ ما فيه، فإذا لم يبق فيه شيء فاملأه زبلاً». * وخطب مرة فقال: «لعمري وإن لعمري مني لحق لوددت أنه ليس من الناس عبد ابتلي بسعَة إلاّ نظر قطيعاً من ماله فجعله في الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل، بدأت أنا بنفسي وأهل بيتي». * وفي حين يصرف بعض المتدينة فضلاً عن غيرهم أموالاً في أبهات دعوية كان عمر يعتبر ذلك خللاً: كتبت حجبة الكعبة إلى عمر بن عبد العزيز ليأمر للبيت بكسوة كما يفعل من كان قبله فكتب إليهم: «إني رأيت أن أجعل ذلك في أكباد جائعة؛ فإنهم أولى بذلك من البيت». - تدرّج في إلزام الناس بالشريعة: * قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: «ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر؟! فوالله ما كنت أبالي أن تغلى بي وبك القدور في إنفاذ الأمر»، فقال عمر: «إني أروّض الناس رياضة الصّعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت على منية فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهْتُ(فاجأت) الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلاّ بالسيف». * وقيل إن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة لم تحيها؟ فقال له: رحمك الله وجزاك من ولد خيراً، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلاّ وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟!». - الناس يصلحها غير السيف: * كتب صالح بن عبد الرحمن وصاحب له - وكانا قد ولاّهما عمر شيئاً من أمر العراق - إلى عمر يعرضان له أنّ الناس لا يصلحهم إلاّ السيف، فكتب إليهما: «خبيثين من الخبث، رديئين من الردى تعرضان لي بدماء المسلمين، ما أحد من الناس إلاّ ودماؤكما أهون عليّ من دمه». - ومن سياسته أنّه كان يتنازل لهم عن بعض ما يكره لينال منهم بعض الحق: * قال عمر بن عبد العزيز: «ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً». - ومن وصية سالم بن عبد الله له: * «قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشؤوا فيه وظنوا أنها السنة، ولم يسدوا على العباد باب رخاء إلاّ فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلاّ سدّ به عنك باب بلاء». - الحقوق ينبغي أداؤها بلا شفاعة: * كان يقول: (ليس من أمة محمد -صلى الله عليه و سلم- أحد في شرق الأرض وغربها، إلاّ وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه، غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني). * وقال: «إنما هلك من كان قبلنا بحبسهم الحق حتى يُشترى منهم، وبسطهم الظلم حتى يُفتدى منهم». - الحياة مقدسة عنده حتى لو كان الموت في سبيل الله: * و قيل إنّه استعمل جعونة بن الحارث على ملطية، فغزا فأصاب غنماً، ووفد ابنه إلى عمر، فلما دخل عليه وأخبره الخبر قال له عمر: «هل أُصيب من المسلمين أحد» قال: لا إلاّ رويجل، فغضب عمر وقال: «رويجل! رويجل؟! مرتين، تجيئونني بالشاة والبقرة، ويُصاب رجل من المسلمين؟ لا تلي لي أنت ولا أبوك عملاً ما كنت حياً». - يشكونه ويترحمون عليه: * جاء رجل إلى هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة فأقرها الوليد وسليمان حتى إذا استخلف عمر -رحمه الله- نزعها، فقال له هشام: أعِدْ مقالتك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك أقطع جدي قطيعة، فأقرها الوليد وسليمان حتى إذا استخلف عمر -رحمه الله- نزعها، فقال: والله إن فيك لعجباً، إنك تذكر من أقطع جدك قطيعة، ومن أقرّها فلا تترحم عليهم، وتذكر من نزعها فتترحّم عليه، وإنا قد أمضينا ما صنع عمر رحمه الله ». - يحسد الحَجّاج ! * وقال يوماً: «ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل». - حتى البغال بلغها بِرُّه: * عن أبي عثمان الثقفي قال: «كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ فقال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، أَرِحْه ثلاثة أيام».