سليمان الدويش - نور الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد: فقد كنت خلال مدة تنويمي في المستشفى أستمع إلى أحاديث الزائرين , وما ينقلونه من معاناة كثير من أبناء هذه البلاد المباركة عن الصحة ومآسيها , ما لو دوَّنت له عشرات المجلدات لما أحاطت ببعض مايستحقه , مما أضاف إلى ما لدي من رصيد ضخم , قناعة تامة أننا نعيش في بلد منكوب أو شبه منكوب وللأسف الشديد . حين نفتح المذياع , أو نقرأ في موقع وكالة الأنباء خبر إعلان الميزانية العامة , ثم نأخذ ميزانية وزارة الصحة تحديدا , ثم نتناولها بقسمة بدائية مبسطة , نجد أن نصيب الفرد منها يفوق كل التوقعات , ويدحض كل المزاعم التي تتحدث عن شُحٍّ في الميزانية , ومن هنا يبرز السؤال العريض : أين تذهب تلك المليارات ؟ . بل ويتبع هذا السؤال عشرات أو مئات الأسئلة , التي ربما غالبها يدور حول استجداء ابن البلد بعض الكرام للتدخل بأمر علاجه , ومتى سيكون علاج ابن البلد حقَّا من حقوقه , بمقدوره تناوله متى ما احتاج إليه . لقد لفت نظري وأنا أتلقى العلاج في مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية شيخ طاعن في السن , وقد بترت قدمه , وكف بصره , ورأيت أنه يحظى بمزيد اهتمام ومتابعة , حيث يرد إليه كلَّ مايشتهيه ويطلبه , فسألت عنه , ومن يكون ؟ , فقيل لي : هذا رجل من عامة الناس , وقد كتب عنه وعن حالته في إحدى الصحف المحلية , فبلغ ذلك الأمير محمد بن نايف – حفظه الله - , فوجَّه من فوره بنقله إلى المستشفى , والتكفل بجميع مايلزم لعلاجه على نفقته , وكتابة تقرير يومي مفصل عن حالته , وترجمته بالعربية , وبعثه إليه مباشرة . حينها سألت وبصوت مرتفع : أليس هذا واجب وزارة الصحة ومسؤوليتها ؟. لن أحول بين هذا الأمير ومواقفه النبيلة المعلنة والخفيَّة , ولكني أطالب وبقوة ألا يحتاج ابن البلد إلى من يُشهر قضيته للملأ حتى يتدخل في علاجها أهل النخوة والنبل. نريد من وزارة الصحة أن يكون لها مستشفيات تستوعب المحتاج حين ملكت القدرة على قبول الحالات السيامية الخارجية . فإذا كان القصد من علاج تلك الحالات الدعاية الإعلامية , فإن الذي نكسبه إعلاميا بقبولنا لتلك الحالات , نخسر أضعافه بردِّنا لحالات داخلية ينتهي بها الأمر للموت . إنه لعار وأيُّ عار أن يموت بيننا من أفنى عمره لخدمة هذا البلد والمساهمة في نهضته ورقيِّه , ونحن نسعى جاهدين لحياة من سيغادرنا حين ينعم بالصحة والعافية , وربما لن يذكرنا بعدها أبدا. لماذا نحتاج لنقل المريض , من مكان إصابته , أو مرقده , لموافقة وزير الدفاع أو نائبه , أو وزير الداخلية أو نائبه أو مساعده , ولهم جميعا – حفظهم الله - في هذا المجال أيادي بيضاء , مع أن هذا ليس من صميم عملهم , في حين تتقاعس وزارة الصحة عن نخصيص طائرات إخلاء طبي أسوة بكثير من الدول التي لاتقارن بنا ماديا ؟ . والله إن الإنسان أغلى من الغزال وحمار الوحش , والمسلم أعظم حرمة من الكعبة , ومع هذا فإننا نرى هيئة حماية الحياة الفطرية تمتلك طائرات لمراقبة المحميات , ووزارة الصحة لازالت تحت وطأة سيارات الإسعاف المتهالكة , وهذا تفريط من الوزارة نفسها , وضربي مثلا لحماية البيئة لايلزم منه الاعتراض على ماتقوم به , بل هو لتذكير المسؤولين بوزارة الصحة بما يجب عليهم أن يقوموا به , ولو كان ذلك بضرب الأمثال لمن سبقهم في مجالات هم أولى بالسبق إليها وأحق . وأعظم من هذا وذاك , تلك الكتل البشرية المتكدسة في استقبال الطوارىء في عامة المستشفيات , والحجة في تأخيرهم أو المماطلة في علاجهم , عدم وجود أسرَّة وكوادر , وهذا منطق عجيب وغريب , فأين ذهبت تلك المليارات , وكيف استطاع أصحاب المستشفيات الأهلية تأمين تلك الكوادر الطبية المتخصصة , وبناء المستشفيات الضخمة , والمراكز الطبية المتقدمة ؟. بل والسؤال الأحق بالتأمل : ما ذا يعني إنشاء عيادات طبية خاصة لكثير من أساطين الطب في بلادنا ؟. أليست مستشفياتنا أحقُّ بهذا الوقت الذي يقضونه في عياداتهم الخاصة ؟ , ولماذا لاتتم مضاعفة أجورهم أسوة ببعض بذوي الدماء الزرقاء , والعيون العسلية , ممن هم عالة علينا , ولم نستفد منهم إلا إشباع عقدة النقص أمام الغرب ؟ . ومن جانب آخر , وهذا من المضحكات المبكيات , فأسعار المستلزمات الطبية تتفاوت تفاوتا عجيبا بين محلات بيعها للفرد العادي , إلا أنها تتحد في بيعها على المؤسسات الرسمية , وتأخذ طابع الغلاء الفاحش دائما , فلا أدري هل ذلك بسبب غفلة المشترين , أم هو استغلال من الباعة , أم وراء الأكمة ما وراءها ؟. لماذا لاتكون هناك لجان متخصصة بالشراء , ولجان أخرى بالمراقبة والتدقيق , ولماذا لايتم تجاوز بعض الباعة الاستغلاليين هنا واستيراد مايلزم استيراده بعيدا عن استغلالهم واحتكارهم ؟ . لست أدعو إلى قطع أرزاق الناس , ولا أعترض مصالحهم , لكن المصلحة العامة أولى بالمراعاة والاعتبار , لأنه من الخطأ أن نقدم رغبة انتهازي استغلالي , بشراء سلعة يمكن شراؤها للفرد العادي بعشر قيمتها , وهذا مانراه جليَّا واضحا في فواتير الشراء لكثير من المستلزمات الطبية , حيث تحسب على الدولة بقيمة خيالية , وذلك تحت حجة أن الدولة قوية ! وهذا مما يؤكد الحاجة على مراجع أسعار الشراء وفواتيرها , ويتطلب إقصاء الشركات الاسنغلالية عن دائرة التعامل , كما يحتم على المعنيين بالأمر في وزارة الصحة سلوك سبل أكثر عقلانية في التعامل مع المال العام لأنه ملك لكل أبناء المجنمع , وهم شركاء فيه , وذهابه إلى أفراد معينين تحت وطأة الغفلة , أو التغافل , أو المجاملة والمحسوبية , من خيانة الأمانة التي لا يرضاها الله ولا رسوله ولا المؤمنون . كما لا يفوتني هنا أن ألفت النظر إلى قضية يمكن وصفها بالظاهرة , وهي كثرة الصيدليات , بحيث أصبحت تنافس محلات الاتصالات والتموينات , وهذا يعني أن مجتمعنا موبوء , أو أن ملاَّك تلك الصيدليات قد بلغت بهم الفراسة مبلغاً أهَّلهم لمعرفة ماسيحيق بالمجتمع من أخطار ومايستقبله من أمراض. إن المبالغة في تعداد هذه الصيدليات , وبأحجام بعض ملاعب الكرة , ومقارنة ذلك بهزال وضعف أداء القطاع الصحي , يعني أننا أمام أمر محيِّر نحتاج جميعاً لكشف طِلَّسْمِه , وإماطة اللثام عن خفاياه . فهل سنشاهد قريبا مستشفيات يلج إليها المحتاج دون عناء ؟ . وهل ستصبح أحاديث الناس عن مآسيهم مع الصحة من الذكريات ؟ . وهل ستتلاشى مواضيع الإثارة هنا وهناك , بحثا عن فاعل خير , أو وجيه معتبر ؟. أذكر أنني اتصلت بالأمير محمد بن نايف – حفظه الله - لإنقاذ حياة أحد المصابين بحادث شنيع, حيث تعذرته كثير من المستشفيات , فبادر مشكورا بالتوجيه بقبوله ونقله عن طريق الإخلاء الطبي , لكنه سألني سؤال المتحسِّر المتألم حيث قال : طيب واللي مايقدر يوصلنا يموت ؟. إن موقف سمو الأمير محمد بن نايف – حفظه الله – لم يكن متصنُّعا , ولامفتعلاً , والدليل على ذلك , أن الرقم التسلسلي للملفات الطبية في مستشفى قوى الأمن وحده قد جاوز المليون , مع أننا على يقين أن عدد منسوبي وزارة الداخلية المدنيين والعسكريين لم يبلغ هذا الحد . إضافة إلى قيام الخدمات الطبية في وزارة الداخلية بالتوسع النوعي , بالتعاقد مع بعض المستشفيات الأهلية لعلاج الحالات التي يتوفر عندهم علاجها , وذلك ليستفيد كل مريض من فرصة العلاج , وللتخفيف على المستشفى الرئيسي ليحافظ على مستوى خدماته . أسوق هذا , ليس من باب التلميع والتزلُّف , بل هو لاستنهاض همم المعنيين بالشأن الصحي ليقوموا بواجبهم , ويستفيدوا من أفكار غيرهم وحكمته. اللهم اهدِ ضال المسلمين , وعافِ مبتلاهم , وفكَّ أسراهم , وارحم موتاهم , واشفِ مريضهم, وأطعم جائعهم , واحمل حافيهم , واكسُ عاريهم , وانصر مجاهدهم , وردَّ غائبهم , وحقق أمانيهم . اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه , والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه , ولاتجعله ملتبسا علينا فنضل. اللهم أصلح أحوال المسلمين , وردهم إليك ردا جميلا. اللهم أصلح الراعي والرعية . هذا والله أعلى وأعلم , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.