المملكة تؤكد التزامها بالحفاظ على التراث الثقافي في الاجتماع الوزاري لدول مجموعة العشرين بالبرازيل    مدرب الأخضر يضم محمد القحطاني ويستبعد سالم الدوسري وعبدالإله المالكي    الهلال: الأشعة أوضحت تعرض سالم الدوسري لإصابة في مفصل القدم    ميتروفيتش يبتعد عن بنزيما ورونالدو    حائل: القبض على شخص لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    ممثل رئيس إندونيسيا يصل الرياض    إطلاق النسخة التجريبية من "سارة" المرشدة الذكية للسياحة السعودية    انطلاق أعمال ملتقى الترجمة الدولي 2024 في الرياض    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب جنوبي تشيلي    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    ما سطر في صفحات الكتمان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    لحظات ماتعة    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا نخشى التغيير
نشر في أنباؤكم يوم 07 - 06 - 2009


د. أحمد الزهراني - الاسلام اليوم
يسكننا خوف ورعب من التغيير، أياً كان هذا التغيير، فحتى لو كان التغيير على المستوى الشخصي لعالم من العلماء أو داعية فإن هذا يثير القلق في أوساط المتديّنين، مع أنّ التغيير قد يكون في بعض الأحيان إلى الأفضل، أو على الأقل في إطار المقبول شرعاً.
مجرد التغيير ليس مشكلة، ولم يكن كذلك على مرّ العصور، منذ فجر التاريخ الإسلامي والناس تتغير جماعات وأفراداً..
التغيّر استجابة طبيعية لحركة الفكر والعلم.. وتعبير حقيقي عن قصور العقل البشري – الفردي والجمعي - عن إدراك الأمور على حقائقها وواقعها، وقصور نظره عن الإحاطة بالأشياء من كل زواياها..
وفي غالب الأحيان يكون تغيّر المواقع سبباً في تغيير الأفكار.. وليس هذا نفاقاً ولا تراجعاً ولا نكوصاً كما يتصور البعض..
على سبيل المثال: كثير منا يكون له موقف في التعامل مع أمر معيّن، فإذا تسنّم منصباً وأصبح مسؤولاً - بشكل ما- غيّر موقفه، ليس ذلك بالضرورة نكوصاً ولا ردّة، ولكن المنصب والمسؤولية زاوية أخرى تُرى منها الأمور بشكل مختلف..
ومثل ذلك التغيير في المجال الشرعي.. الفتاوى والآراء الفقهية والاجتهادات ومثلها الأنظمة والقوانين المبنية عليها في الجانب الاجتماعي والسياسي هي أيضاً قابلة للتّغيير.. فإن عوامل الزمان والمكان لها تأثير في الزاوية الّتي ينظر من خلالها الفقيه وأصحاب السياسة الشرعية للأمور، لا يلزم أن يكون التغيير إنكاراً وتخطئة للسابق؛ فالحكم على المرحلة السابقة ليس مهماً في عملية التغيير البنّاء، بل المهم هو الحالة الّتي تعيشها الأمة ويعيشها الإنسان الفرد..
وهذا الأمر له جذور مغرقة في التراث.. ولن أستلّ مواقف من حياة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لأنّ الكثير سيعتبرونها جائزة باعتبارها من قبيل النسخ..
ولكن بعد موت النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وانقطاع الوحي وبدء مرحلة الاجتهاد..
في حياة الصحابة ومن بعدهم أمثلة كثيرة.. ومن أشهرها تغيّر اجتهاد عمر في المسألة الحمارية في المواريث وهذه يعرفها أهل المواريث؛ إذ أفتى فيها عمر بعدم توريث الإخوة الأشقاء، وورّث الإخوة لأم باعتبار أنّهم أصحاب فرض، وهو الثلث يشتركون فيه، وأن الأشقاء عصبة يأخذون ما تبقّى من التركة، وفي هذه الصورة الفريدة لا يتبقى لهم شيء، وفي العام التالي عرض عليه نفس المسألة، فقضى فيها بإشراك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، فلما عوتب على تغيّر موقفه الأوّل قال قولته المشهورة: (تلك على ما قضينا, وهذه على ما قضينا)..
كذلك تغير فتوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مسألة بيع أم الأولاد..
وليس بخافٍ علينا تغير مذهب الشافعي عندما انتقل إلى مصر، فصار له مذهبان عند أصحابه قديم وجديد..
ومذهب الإمام أحمد مشهور بتعدّد الروايات..
في السياسة كذلك حصلت وقائع معروفة.. أضرب لها مثالاً مشهوراً، وهو نقل معاوية -رضي الله عنه- أسلوب الحكم من الخلافة الراشدة إلى المُلك، واتخاذه بعض الأنظمة التي استفادها من احتكاكه بالممالك القريبة منه كفارس والروم..
في السير أنّه لما قدم عمر الشام، تلقّاه معاوية في موكب عظيم وهيئة، فلما دنا منه، قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال معاوية: نعم.
قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك.
قال: نعم.
قال: ولم تفعل ذلك؟
قال: نحن بأرضٍ جواسيسُ العدوّ بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم، فإن نهيتني انتهيت.
قال: يا معاوية! ما أسألك عن شيء إلاّ تركتني في مثل رواجب الضرس. لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، وإن كان باطلاً، فإنه لخدعة أديب.
قال: فمرني.
قال: لا آمرك ولا أنهاك».
وعلى هذا المنوال سار الأئمة من العلماء والأمراء.. لم يكن التغيير يوماً من الأيام في ذاته محل ريبة، وإنّما كان النظر يتوجّه مباشرة إلى مضمون التغيير: هل هو إلى الأفضل والأحسن أو هو إلى الأسوأ؟!
لماذا نخاف من التغيير؟
حين أتناول هذا الموضوع فإني أعني بالدرجة الأولى ما نعيشه هنا في المملكة من حراك ثقافي وفكري؛ فالذي ينظر بعين مبصرة يدرك مباشرة أنّ هناك رياح تغيير تهب من جهات عديدة.. وتقف في وجهها مصدّات كثيرة.. وبين قوة الريح وممانعة هذه المصدّات يحدث القلق والتردد عند كثير من المتابعين، وأخص هنا المتديّنين بالذات..
وسبب هذا القلق في كثير من الأحيان أنّهم لا يدركون سبب الرغبة في التغيير.. وأحياناً لا يدركون سبب الممانعة من التغيير..
يرون أحياناً أوضاعاً مستقرة يرغب البعض في تغييرها دون حاجة..
ويرون أموراً تستحق التغيير ولا يفهمون سبب الممانعة..
قوة تضغط نحو التغيير لدرجة الرغبة في التغيير والإحساس بنشوة الانتصار مهما كان حجم التغيير ومضمونه.. فكل شيء عند هؤلاء رخيص في سبيل تحقيق نصر على أرض الواقع..
وقوة أخرى تتصلب في الممانعة لدرجة تعميها عن رؤية الحق وإلى مستوى يصل إلى الإصرار على منع التغيير، ولو تضمن ذلك منع المشروع ومعارضة الحقوق المشروعة، وغض الطرف عن التجاوزات في سبيل حرمان الطرف الآخر من تحقيق نصر في معركة فكرية لا رابح فيها.
لا يعنيني فهم مواقف الطّرف الأوّل؛ لأن رغبة التغيير مفهومة وواضحة سواء في ذلك دعاة التغيير العبثي الشامل ودعاة التغيير المتعقل المدروس؛ فأسبابهم ومسوّغاتهم واضحة.. بغض النظر عن صوابها من خطئها.
إنّما يهمّني الطرف الممانع وأعني بهم من يجنح دائماً إلى أشدّ (الآراء) الفقهية أو السياسية في مسائل لها مساس بحياة الناس.. وتقبل تعدد الآراء المشروع؛ إذ كثيراً ما يقف هؤلاء في وجه أي محاولة لتغييرٍ سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي تبعاً لرأيهم الخاص في مسألة لها علاقة بهذا الجانب..
تأمّلت في هذا الأمر كثيراً ووجدت أنّ السبب - في رأيي الشخصي –هو أنّنا في الحقيقة ضحيّة خبرات سيّئة انتقلت إلينا منذ عقود ونمت وترعرعت في دواخلنا، وكبرت حتّى حجزت كلّ المساحات الفارغة في أذهاننا.. ولعل التجربة المصرية هي الأكثر حضوراً والأشدّ تأثيراً..
يعرف المطلع على تاريخ مصر الحديث كيف تمّ تغريب المجتمع المصري في كثير من جوانب حياته، وكيف تم استبعاد القوانين الشرعية وإحلال الغربي محلها شيئاً فشيئاً، وكيف كانت معركة الحجاب في مصر وإخراج المرأة من خدرها إلى منصات الكباريهات..
لقد شكّل ذلك صدمة قوية للشارع المصري المتدين بطبيعته.. كانت صدمة بالفعل هذه النقلة القوية من البيت إلى المسرح حيث تتعرى المرأة أمام الزبائن في مشهد يثير كثيراً من الدهشة، ويعطي رسائل في غاية القوة للآخرين، فليس الأمر متوقفاً على حفلة ماجنة وكؤوس صفراء وليلة حمراء، بل كان مشهد الراقصة وهي تخلع لباسها تعبيراً عن خلع المؤسسة الحاكمة والجهات المرتبطة بها اللباس الإسلامي الذي ظلت مصر مختمرة به قروناً عديدة..
وحدث في سبيل هذا الإحلال والاستلاب الثقافي مسرحيات على أرض الواقع.. وحصل في خضم هذا معارك فكرية طاحنة دارت رحاها على صفحات الجرائد والمجلات، وفي صوالين المتنفذين، وفي المساجد وفي كل مكان بين التقدميين بكل أطيافهم وبين الرجعيين الظلاميين بكل أطيافهم - كما كان التعبير السائد وقتها.
كل هذا المشهد كان أشبه ما يكون بمسرحية ذات فصول متعددة، كل فصل يحكي مرحلة من مراحل التغريب، شاهدها كثير من الإسلاميين على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم العلمية والثقافية..
وبعد ذلك جاءت مرحلة السّرد، وبدأ بعض من عاصر تلك الفترة يكتب تجربته، ويحكي ما شاهده بصيغة متأثرة بما شاهده أو وقع عليه..
وكثير من تلك الكتابات وصفت الحالة المصرية بدقة شديدة.. كان بعضها يغلب عليه السرد المجرد وبعضها يغوص في التحليل والمقارنة..
وتلقّت الأجيال الناشئة في العالم الإسلامي هذه الكتب الكثيرة، وبعضها لقي رواجاً رهيباً إما بسبب بلاغة الكاتب، وإما بسبب مأساوية الموقف الذي وقع فيه وعاشه، حتى طبعت من كتب بعضهم ملايين النسخ.. تلقّفها الناس وقرؤوها، وكثير منهم ذو عاطفة دينية أصلاً، وزاد الأمر تعقيداً تسنّم بعض الإسلاميين مناصب تعليمية في جامعات ومدارس المملكة، فتربّى على أيديهم أعداد كثيرة من الطلبة، فعبر المشافهة والكتابة نقل هؤلاء التجربة المصرية بكل ثقلها إلى أذهان جيل أو أكثر من المسلمين.. نقلوها دون أن يكون هناك تحليل موضوعي وتشخيص دقيق محايد يبين نقاط الاتفاق والافتراق بين الحالة المصرية والحالة السعودية..
بل كان القاص غالباً هو الضحيّة.. وهذا يعني غياب الحيادية وإلقاء مسؤولية المرحلة بكاملها على طرف واحد..
وزاد الأمر شدة أنّ بعضهم تولى توجيه محبّيه إلى الحالة السعودية في عملية إسقاط للوضع المصري على الوضع السعودي.. وبذلك نشأت لدينا ذهنية الممانعة الّتي يتملّكها خوف من تكرار التجربة المصرية لدينا هنا.
في ظني أنّ هذه الثقافة والتجربة المصرية وارتباطها بالوضع في المملكة عبر رموزها الذين عاشوا هنا سنين طويلة وفي مواقع تربوية هم سبب رئيس في الطبيعة الاحترازية، إلى درجة (الفوبيا) من التغيير أياً كان موضوعه وهدفه..
ولو تصفّح الواحد كتابات بعضهم لوجد أنّهم صرّحوا مراراً محذّرين المملكة من بعض الأمور خوفاً من أن يتكرر المشهد الذي عاشوه في مصر..
فأصبح أي تشابه بين موقفين أحدهما معاصر - عبر داعية إصلاح وتغيير أو عبر مسؤول - وبين موقف قديم كان مقدمة وتوطئة لتغييرٍ سيّئ يؤدي مباشرة لاستدعاء التجربة في الذهن، ومن ثم إحداث حالة الخوف والممانعة..
تماماً كالطفل الذي يذهب به والده للطبيب أول مرة فيحقنه الطبيب بالحقنة التي تؤلمه، فيربط ذهنه مباشرة بين تلك الحقنة وبين المستشفى بكل ما فيه، بل مجرد العبور من أمام المستشفى سيؤدي بالطفل إلى الخوف؛ لأنّ هذا الشكل ذكّره بالموقف الأوّل.
وعلى سبيل المثال: إذا رجعنا إلى واقع الخلاف الحاصل في بعض من القضايا الآن سنجد أنّ كثيراً من الممانعين قد ربطوا المطالبة ببعض الأنظمة في حق النساء بموقف دعاة التحرر في مصر، وكيف كانت بعض المطالبات البريئة في ظاهرها مقدمة لخلع الحجاب بالمرة وصولاً إلى العري.. وترى اسم هدى شعراوي يتكرر كثيراً في أدبياتنا وإسقاطها على أيّ امرأة تطالب بشيء ممّا تعتبره حقاً مشروعاً.. بغض النظر الآن عن كون مطلبها مشروعاً أم غير ذلك..
وهذا يجعل هؤلاء يصرون على الممانعة والخوف الهستيري - أحياناً - لما يتصورونه من أن هذه مجرد خطوة في طريق خلع الحجاب..
وهذا تصور خاطئ، ليس لأنّي أنكر وجود من يسعى لذلك بيننا؛ فلسنا مجتمعاً ملائكياً كما يُقال.. نعم فينا عينات انتكست فطرتها، وتسعى عبر تشريعات مثل هذه إلى نقل المجتمع الإسلامي إلى المثال الغربي..
لكن هذا ليس مسوّغاً إلى منع المشروع والتضييق على الناس.. بل الصحيح أن نبادر نحن بالمطالبة بالمشروع وتشريعه والسماح به وفق الضوابط الشرعية التي لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف، أي الثوابت والقطعيات العامة التي لا يختلف حولها أهل العلم.
فالحجاب اللباس مثلاً فريضة محكمة لا خلاف في ضلال أو جهل من ينكره أو يفسّره بالحشمة والوقار وغير ذلك من أنواع التأويل الباطل، بل أوجب الله على المرأة أن تستر كامل بدنها عن الرجل الأجنبي، أمّا كشف الوجه – كمثال مشهور- فالأمر فيه خلاف سائغ، وكذلك بعض مسائل أخرى كلبس العباءة على الكتف أو الرأس.. وغير ذلك من مسائل يعرفها طلبة العلم.
إن هذا الذي قلته هو حقيقة البيان لحدود الله.. وما أكثر ما تكررت هذه الكلمة في الخطاب الشرعي..
حدود الله هي المناطق الفاصلة بين المشروع والممنوع.. الزيادة والمجاوزة في هذه الحدود يفقدها هذه الصفة؛ فلا تصبح حدود الله، بل تصبح حدودنا نحن.. ولا يجوز أن نلزم الأمة بحدودنا التي نتصورها.. (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
لقد كان المنافقون والمتربصون ومرضى القلوب يعيشون في المدينة مع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في المدينة فضلاً عمّا حولها.. وفي عهدٍ مازالت الدعوة في بدئها، ومع هذا لم يمتنع صلّى الله عليه وسلّم عن أي عمل مشروع مع كثرة من يسعى لاستغلال المشروع للوصول إلى أهداف غير مشروعة.. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنّ الإسقاط أصلاً ليس صحيحاً، وهذا لبّ مقالي وغاية مرادي..
فالواقع المصري غير الواقع السعودي، من حيث الظروف، ومن حيث البيئة الثقافية، ومن حيث طبيعة المطالبات والمطالبين أنفسهم.
فالمملكة العربية السعودية لم تقع تحت احتلال غربي وانتداب أوروبي سنين طويلة كما كان الوضع في مصر، المملكة منذ توحيدها وقبل ذلك بكثير حتى في عهد الشركيات والخرافات لم تتعرض لمد تغريبي في المستوى الاجتماعي بل عاشت على فطرتها الدينية في الجانب الاجتماعي، ولهذا لم يكن تشريع بعض الإصلاحات سبباً في التغريب..
فإنشاء المدارس للبنات في السعودية لم يؤدّ إلى ما تخوّف البعض منه، بل على العكس خرج من مدارس البنات كبار الداعيات العالمات بالله وبدينه، ولم يستطع أحد أن يطالب بالاختلاط أو يرفع به رأساً؛ لأنّ البيئة الثقافية لم تكن لتقبل أصلاً بأكثر من المشروع وهو تأسيس مدارس البنات، واستطاع المجتمع تجاوز الخوف من أن يكون تأسيس مدارس البنات ذريعة للمفاسد، ونحن نرى الآن أن كثيراً من حفيدات أولئك الذين مانعوا تأسيسها في البدء طالبات منتظمات فيها.
طبيعة الطبقة الحاكمة في مصر في تلك الحقبة تختلف عن طبيعة الحكم في المملكة؛ فالأسرة التي تحكم المملكة لها جذورها وعلاقاتها ومركزها الديني، واتخاذها أهل العلم الشرعي في مواقع مهمة؛ كرئاسة القضاء والإفتاء والدعوة و غيرها، وكلها عوامل يبعد -إن لم يستحل – أن تسمح بتمرير أي مشروع تغريبي، بعكس الواقع في مصر ولهذا كان من السهل عليهم قبول الإحلال الثقافي وتأييده بحجة التقدمية أو محاربة الرجعية.
كما أنّ كثيراً من المطالبات الّتي تتمحور حولها الخلافات الفكرية لا ترقى لأن تستحق مثل هذا الضجيج؛ فكثير منها مسائل ليس فيها اختراق ثقافي، ويمكن السماح بها حتى مع وجود مفسدة - فليس كل تشريع خالياً من مفاسد، وإنما العبرة بالغالب – والتفرغ للمطالب التي تشكل اختراقاً حقيقياً، وما زلنا إلى الآن لم نشهد واحداً يصرح بها ويصر عليها، ومن أشار أو ألمح إليها وجد ممانعة حقيقية صلبة ترتكز إلى الثابت الحقيقي لا الوهمي، وهذا كفيل بوأده في وقت مبكر.
وأخيراً فإن طبيعة المطالبين تختلف، فكثير من المطالبين ببعض الإصلاحات أو التغييرات ليسوا علمانيين، ولا حداثيين، ولا ليبراليين، ولا ماركسيين، ولا ينتمون إلى مذهب فكري، بقدر ما هم مواطنون يرون أنّ من حق المواطن الحصول على بعض التغيير. كل ما في الأمر أنّ مطالبهم تتوافق مع بعض مطالب العلمانيين ودعاة التغريب الحقيقي، وهؤلاء ليس ذنبهم أنّ أهل الباطل يتكلمون بالحق توصّلاً به إلى الباطل، وفي ظني أن كثيراً منهم لو وجد من يستمع إليه من أهل العلم، ويفهم مقاصده لكان – حتى مع إصراره على المطالبة – في صف أهل الدين والعلم، لكنّ الذي يحصل أنّ مجموعات مشبوهة التوجّه والمصدر تتصل بهم، وتؤيدهم وتدفعهم، ومجموعة من طلبة العلم ومن خلفهم مجموعات تابعة يحاربونهم، ويفتئتون عليهم وينسبونهم لمذاهب فكرية، ويتهمونهم بالعمالة والتبعية لاستخبارات دول معادية، وكل هذا يشكل إلجاء قسرياً لهؤلاء أن يكونوا في صفوف الكارهين للدين لمجرد التوافق الظاهري.
الحل في رأيي:
أولاً: يجب أن يستقل طلبة العلم والدعاة، وأن يتحرروا من التبعية والتقليد، وأن يبعدوا عن أنفسهم شبح الخوف من المخالفة.. وأن يُعاد صياغة النشء الإسلامي والتربية على أساس من الاستقلال الفكري وتبني النقد كآلية لمعرفة الصواب من الخطأ، نعم سينتج عن ذلك مجموعات شاردة عن الحق تجادل في المسلمات، وهذا لم يخلُ منه عهد الصحابة فكيف بعصرنا..؟!
لكنه في نفس الوقت سينتج جيلاً من الشباب الذي لا يستطيع داعية صوتيٌّ أجوف سحبهم إلى مهاوي الضلال الفكري التكفيري..
ولا يستطيع متحذلق علماني أو حداثي أو ليبرالي جرّهم إلى مهاوي الضلال الفكري الإلحادي بمعناه الأوسع.
إن هذه الاستقلالية الفكرية على ما فيها من مخاطر هي خير ألف مرة من خلق أجيال يسهل توجيهها وقيادها من أي طرف متغلّب وسلبها القدرة على التفكير والنقد البنّاء، بمعنى خلق حالة جماهيرية تقودها العاطفة، والعاطفة ليست متدينة بطبعها، بل قد تتدين وقد تكفر.. وهذا ما حصل في الواقع للأسف في كثير من جوانبه؛ إذ تم تأثراً بالجماعات الحزبية الاعتماد على الجماهيرية أكثر من الانتخاب.. وقد رأينا كيف يتم حشر الآلاف في محاضرات لا يفهمها ولا يعي مقاصدها إلاّ عشر معشارهم أو أقل، والبقية يؤيدون بلا وعي، ولم تكن تلك طريقة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي لم يكن يقصد الجمهور إلاّ من خلال الفرد..
من الفرد بقناعته وطبيعة تكوينه ومهاراته الشخصية كانت الدعوة تبدأ؛ فنشأ جيل الصحابة فريداً في تركيبته، فهو من حيث الأفراد نماذج، كلٌّ في مضمار.. وهو من حيث جماهيريته أنموذج للعقل الجمعي الواعي لا المُسيّر..
ثانياً: الانفصال شعورياً عن الواقع المصري وغيره من التجارب التي عاشتها أو تعيشها بلاد إسلامية.. علينا أن نعود لأنفسنا وذواتنا وأشخاصنا وحالتنا، وندرس واقعنا دراسة متأنية متجردة متحررة من ضغط الألم الذي شعرنا به تجاه تجارب إخواننا في البلاد الإسلامية الأخرى.
لا يجوز استيراد الحالة من بلد لآخر.. نعم نعيش هموم إخواننا بالمعنى الإيجابي لا بالمعنى السلبي الذي يندمج معه إلى حدّ الإحباط والركون واستعداء الفئات القريبة منا لعجزنا عن الدفاع عمّن نهتم لأمرهم..
إنّ أكبر دفاع وعون نقدمه لأمّتنا أن نحافظ على مكتسباتنا؛ فكل قطر إسلامي على ثغر مهم، والحفاظ على المكتسبات جزء من مهمة الدفاع، وإن كان ذلك لا يقنع بعض المتحمّسين..
لقد رأينا كيف أدّى طحن المجتمع في آلة الاهتمام بهموم الأمة إلى نتائج كارثية، حتى ترك كثير من الناس مواقعهم وكانوا على ثغور فرّطوا فيها، وبعضهم ارتكب الحماقات، وجلب الدمار والخراب إلى بلاده، فأصبحنا نبكي بلاداً كثيرة بعد أن كنا نبكي بلداً واحداً، ورأينا كيف تم تحت شعار تحرير فلسطين ارتهان دول أخرى لأنواع من الاحتلال.. ورأينا كيف تم تحت شعار إخراج المشركين من جزيرة العرب دخول المشركين إلى بلاد عربية وإسلامية.. هذا هو الفقه الأعوج كما يُقال..
علينا الانعتاق من تجارب الآخرين وسيطرتها على تفكيرنا وخلق هواجسنا.. ينبغي أن تكون هواجسنا نابعة من واقعنا، فإن كان ثمّ ما يؤيّدها وإلاّ كانت ضرباً من سوء الظّنّ..
ثالثاً: إحسان الظن بالناس وعدم تغليب سوء الظن.. لا يجب أن نسارع إلى إساءة الظن بولاة الأمر أو ببعض المسؤولين أو العلماء أو الدعاة، أو حتى بعض المواطنين من كتاب صحف أو غيرها ممن يطالب بما يظنه مشروعاً، حتى لو كان فيه بعض الخلل، بل علينا أن نتعامل معه بالمنطق الشرعي.. فإن كان ما يطالب به حقاً فحيّهلا مهما كان مقصده.. وإن كان ما يطالب به مخالفاً للشرع أفهمناه وعلّمناه وأحسنّا به الظن ما دام لم يصدر منه ما يدعو لغير ذلك.. وإن كانت مطالبته في حيّز المختلف فيه فإن للحاكم أن ينظر في الأمر، ويختار ما يراه مناسباً..
علينا تحبيب الناس في الخير والدين، وهذا لا ولن يكون مادمنا نسيء الظن في كلّ من طالب بما نخالفه فيه..
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال: فسد الناس فهو أفسدهم» بفتح الدال وبضمها على خلاف بين الشراح والمعنى أنه أفسدُ منهم، أو أنه هو بإساءته الظن بهم بِلا حَقٍّ أفسدَهم، وهذه حقيقة نفسية معروفة.. فإنك إذا أكثرت من اتهام شخص بما ليس فيه فإنك تُلجِئه إلى تبني ذلك من باب ردّ الفعل اللاشعوري..
رابعاً: علينا أن نعوّد أنفسنا على التغيير المتعقّل الواعي البنّاء.. وفي ظني أنّ قراءة سير المجدّدين الذين أحدثوا تغييرات في الفتوى الشرعية والدعوة الإسلامية على مر التاريخ ستغير من نمط تفكيرنا..
علينا – مرة أخرى - أن ننعتق من قراءة كتب التاريخ السوداوي العنيف والتحليلات المغرقة في التشاؤم، الكتب التي حكت تاريخ الصراع بين جماعات إسلامية وطوائف وأنظمة حاكمة وقصص التعذيب والقتل وبعض هذه الكتب سطّرها أصحابها من داخل السجون وتحت وطأة التعذيب، فلك أن تتخيل الصورة التي ينقلها الكاتب إلى نفس القارئ وذهنه، لقد شبعنا منها وأثقلتنا همومها، وانعكس ذلك على لون النظارة التي نرى بها الحياة والمتغيرات من حولنا فأصبح أكثر قتامة..
علينا أن نتعامل مع الفرق والجماعات والطوائف من خلال الواقع الذي نعيشه، لا من خلال تاريخ الفرق والجماعات فقط، لا شيء يبقى على حاله، هناك فرق دائماً.
لا بدّ من الانتقال مباشرة إلى كتب ومؤلفات التفكير الواعي، كتب المتفائلين المبشرين لا المعسّرين، وإلى كتب الفقه المقارن للعلماء المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، والشاطبي، ومن المعاصرين الشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، وغيرهم كثير، رحم الله الأموات وحفظ الأحياء.. تلك الكتب الّتي يتعلم منها القارئ أنه لا تقديس إلاّ للنصوص وما فيها من أحكام، وأمّا الاجتهادات والآراء فكلّ ذلك قابل للتغيير، ومن قبل ذلك كله إلى القرآن الكريم وتفسيره والسنة الثابتة وشروحها لمعرفة سنّة الله في التغيير وطريقة الشرع في مراعاة الظرف الزماني والمكاني، وأهم من ذلك معرفة الثابت والمتغير وكيف تعامل النص القرآني والنبوي مع مسائل الشريعة والعقيدة، وكيف فهم السلف من ذلك حقيقة السعة في الإسلام وقابلية الفكر الفقهي للتشكل والمرونة دون إخلال بالأصول..
آخر المقال والله أعلم بالصواب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.