أرجو أن يلاحظ القراء الأعزاء معي أشكال نهايات الحروب الإسرائيلية / العربية، الصغيرة منها والكبيرة، طوال عقود الصراع المشترك بين الفرقاء. في منطقتنا تبدأ الحروب - عادةً - بعمل دفاعي كما نسميه وعمل عدائي كما يسميه الإسرائيليون، تستمر المعارك لمدة تتراوح بين ستة أيام وشهر ونيف، ثم تبدأ التدخُلات الدولية عبر قرار أممي، يبدأ بعده وقف إطلاق النار وتبدأ معه مفاوضات إزالة آثار الاحتلال والعدوان، بعد ذلك تُطلق حملات جمع التبرعات وإعادة الإعمار وينسى الناس شيئاً فشيئاً ما حدث... إلا ما يذكرهم بواقع مشاهد لأراضٍ مغتصبة جديدة، أو مستوطنة تقام على ما فقد وسلب. ... هكذا تمضي حروبنا كلاما في الهواء ثم كلاما مسلحا وبعد ذلك كلام في الهواء .. ومطالبات تتخللها خلافات. إنني أتحدى أن يشار إلى حرب خارج هذا التصنيف أو كسر للقاعدة التي بدأت منذ 1948م حتى يناير 2009. ماذا يعني هذا؟ يعني أن للسيناريو المتكرر الممل عدة أسباب منها: أن العرب يجهلون أهداف حروبهم، وهنا تكمن المعضلة الكبرى. فحرب 1948 دخلها العرب لأهداف يصعب تحقيقها، ومن ثم ينعكس هذا التشويش في الفهم على مجريات المعارك. كان البعض في تلك الأيام يطالب بطرد اليهود عامةً من فلسطين، والبعض الآخر يكتفي بما نص عليه قرار التقسيم والدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، ومن عاصر الحرب الشهيرة في تلك الفترة يتذكر حالة الجيوش العربية المتقاتلة بكل حزن وأسى. لقد كانت القيادات العسكرية الكثيرة تنتشر بين سوريا حتى مصر بدون ارتباط في العقيدة القتالية ولا تنسيق ولا معرفة بالأهداف المرجوة من حركة الجيوش والتحامها مع العدو، وفي المقابل كان اليهود أكثر بمراحل في الانضباط العسكري وفي معرفة قراراتهم وأهدافهم، إلى جانب التسليح المتفوق على الجيوش العربية كلها، التي أعلنت بعد خيبتها الكبرى أن سلاحها كان فاسداً أو لا يعمل من قلة الذخيرة! لاحظت كذلك أن كل حرب إسرائيلية عربية، أو عربية ضد أميركا وحلفائها كما حدث في العراق مثلاً، تنتهي بإجراء تحقيق برلماني من خلال لجان تقدم تقارير للطرف المنتصر القوي الذي احتل أو دمر جزءاً من بلادنا العربية هنا أو هناك، وفي المقابل لا يكتفي المنهزمون بالصمت الذي قد يكون بليغاً وإنما يقومون برفع علامات الانتصار إما عبر أيديهم أو حناجرهم. فالهزائم تصبح «أم المعارك»، والهزيمة المدوية المُخلفة احتلال أراضٍ أكبر من أرض المحتل أصلاً تطلق عليها «نكسة»، والدمار والتخريب في البنية التحتية والانسحاب من الحدود ونشر القوات الدولية بدلاً من مليشيات «المقاومة» يُنعت كل ذلك بأنه «نصر إلهي»، والأقاويل عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر تتحول إلى مطالبة بفتح معبر ورغبة ملحة للإشراف على مبالغ إعادة الإعمار، وقصف المفاعلات النووية العربية الوليدة بكل يسر وسهولة، يلحقه ادعاء بعد أن تدخل الطائرات المجال الجوي لأصحاب المفاعل وأراضٍ عربية أخرى، بأن ذلك التسلل الذي تُؤخذ صور تليفزيونية دقيقة له ولنتائجه لم يحقق أهدافه، وأن حق الرد مكفول بعد أن نحدد مكان وزمان المعركة الفاصلة الذي قد يطول عقوداً... إن تم! رجال المعركة وقادتُها هم كذلك جزءٌ من السيناريو الممل «تشرشل» و «ديغول» لم يشفع لهما الانتصار في الحرب العالمية الثانية، لمد رئاستهما لمجلس الوزراء والرئاسة الأولى. لقد ابتعد عنهما - وغيرهما - الناخب مخافة تجيير الانتصار إلى حكمٍ طويل الأمد ممل، وقارنوا بعد هذا السرد التاريخي السريع مع تاريخ قادة الحروب المنهزمين - عسكرياً واقتصادياً - في بلادنا. نحن - عادة - نراهم يخرجون غداة «النكسة» أو نصف الهزيمة أو الانتصار الكامل، ليخطبوا ويطلقوا النار في الهواء ابتهاجاً، وقد يُسلّمون سيوف الانتصار وتُلف على رؤوسهم تيجان من القار، إلى جانب نياشين وأوسمة لمعارك وهمية وانتصارات تصنعها المخيلة، لا غير! إعلامنا يشارك كذلك في هذا السيناريو الممل : صحافة العدو الإسرائيلي تروح منذ الدقيقة اللاحقة لوقف إطلاق النار تبحث بلا ملل ولا كلل عن دهاليز صناعة الحرب الدائمة عندهم : أين الخلل؟ ولماذا لم يتخذ هذا القرار العسكري أو ذاك؟ ولماذا سقط ضحايا بالعشرات في صفوفهم مقابل آلاف في صفوف العرب؟! أما إعلامنا فهو نموذج للسَّاسة في بلادنا : مُحلّلون يخرجون علينا من خلال الشاشات أو يكتبون في أعمدة الصحف ليشرحوا كيف أن إسرائيل بعد هذه الحرب غير إسرائيل قبل ذلك. أما الأميال الإضافية الكثيرة التي احتُلت فلا يتطرقون إليها إطلاقاً. وأما نتائج الحرب الكلية ونصف الكأس السوقي العسكري الفارغ - إن لم يكن ثلاثة أرباعه - فلا يظن أحدٌ أن الإشارة له ستكون واردة لا أول الإرسال ولا آخره، ولا في هذا العدد الصحفي ولا العدد المليون اللاحق! .. آهٍ نسينا الأسرى! الأسرى العرب عند الإسرائيليين كُثر وأسراهم عندنا قليلون جداً، ومن طقوس السيناريو الممل ما بعد الحرب، سنجد - بلا شك - تبادلاً لأسرانا وبالمئات، مقابل رفات جندي أو جنديين أو أكثر قليلاً من الإسرائيليين، ويتبع هذا تهليل وتعظيم إعلامي لخطوة هذه الدولة - أو الدويلة - وما قام به هذا الحزب أو الفصيل، سيُعتبر هذا التبادل الحلقة الأخيرة من دائرة النصر العظيم! راجع - عزيزي القارئ الكريم - تاريخ حروب العرب منذ القرن العشرين حتى الآن وقس ضغطك وحالتك المزاجية قبل وبعد المراجعة .. ولا تنس تدوين عدد مرات التثاؤب لديك، وإن كان معدل تلك المؤشرات غير طبيعي، فعليك فوراً القيام بعمل آخر غير مراجعة تلك البدايات والنهايات، لحروب عرب الأزمنة الحديثة والمعاصرة مع أعداء الأمس واليوم وغداً!