لم تكن الخطب السياسية في الماضي أمراً عبثياً , أو قراءة ارتجالية من الزعيم لشعبه بل كانت أمرا ذال بال ,وكلاما ُ صفى بغربال. بل حدا الأمر بالبعض أن يبحثوا عن التميز ولو على خلاف المألوف كما جاء في خطبة زياد البتراء لعدم ابتدائها بالتحميد والخطبة الشوهاء لخلوها من الاقتباس من القرآن ! و لما سُئل عبد الملك بن مروان عن شيب رأسه قال : " شيبني صعود المنابر ". ولهذا خلد التاريخ عباراتهم من عشرات السنين , كما في الحجاج بن يوسف الثقفي بمقولة المشهورة" أرى رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها ", فكانت مثل البريق الذي نلمحه، يملأ أنظارنا في لحظة.. ويصم آذاننا لوهلة... لنقف بعده مشدوهين متسمرين في أمكنتنا! كلمات لا تقاس بالمساحة!! إنما تنبع قوتها من الهيجان المصاحب لها.. الذي يجرف معه مشاعر وإيحاءات تلطمنا على وجوهنا.. فنهتز لها مترنحين!! إلا أن هذا الوهج بدأ ينطفئ مع مرور الوقت , وحمل التاريخ مقولات قليلة , أقرب ماتكون لشرح وجهات النظر لدى أصحابها كما قال مارتن لوثر كينج بعبارته الخالدة " لدى حلم" ,أو تشي جيفارا : أنني أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى مظلوم في هذه الدنيا. وفي ماعدا ذلك حملت لنا الحروب إخفاقات لبعض الناطقين السياسيين , الذين لا ينظرون أبعد من تحت أقدامهم التي لا تسير بهم إلا للمصائب!! بل أدت بأصحابها الناطقين إلى أحد أمرين ! أما التواري عن الأنظار كما حدث مع الصحاف وزير الأعلام العراقي في حرب العراق الذى كان يخرج بالتلفاز نافياً وجود أى علج أمريكي في بغداد بينما هي تقصف ! أو النهاية المفجعة بأيدي صاحبها كما حدث مع "جوبلز" وزير الدعاية والأعلام في عهد ألمانيا الهتلرية.. كان "جوبلز" وقتها مبهرا ومقنعاً في مقالاته وخطبه الدعائية. وكان بحق المنظر والمبرر الأكبر لكل نظريات هتلر فبعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية، انتحر هتلر، وانتحر جوبلز بعده بدقائق، لإدراكه خطورة كلماته على الحلفاء!! ولهذا طواهم التاريخ لأنهم موجودون طبقا لأطر ضيقة، وظروف معينة؟ بارعون في المديح، متطرفون في الهجاء، ويبيعون "الضمير" بالمفرق والجملة. تسيرهم الغريزة التي لا زال الإنسان يحاربها في نفسه حتى الآن ليرقى فوقها.. ويسمو عليها.. ويحذر منها!! وتتعطش كافة الشعوب لمن يطلق عنها حشرجاتها , بمقولات تلملم بها ذواتها وتلفظ انسحاقاتها ..لاتُميز بين المثقف والعامي , ولا الإسلامي والليبرالي , وهكذا جاءت العبارة التي قالها حفناوي تونس" لقد هرمنا , في انتظار هذه اللحظة التاريخية " لأنها تمثل نبض الشارع العربي , الذي فاق الشارع الإنجليزي الذي كان يخلو تماماً من المارة وقت سماع خطب تشرشل , حتى أن تشرشل يوماً ما أرسل سائقه الخاص والحرس وكل رجاله ليسبقوه إلى الميدان إلى أن ينتهي من كتابة خطبته - فقد كان مشهوراً ببلاغته - وعندما أكملها نزل ليوقف تاكسي، وبعد جهد توقف احدهم فقال له :من فضلك أريدك أن توصلني إلى الميدان الكبير فقال السائق ببرود : لا ... لن اعمل الآن ، فسأله لماذا؟ فقال السائق وهو يلعب بمفاتيح الراديو : لان تشرشل سوف يخطب الآن وأنا لا اترك له كلمه!