دخل المعترك الفكري السعودي في معركة جديدة: (الحريات، الديمقراطيات، والتنوير والإصلاح), وباتت الأقلام ذات الوزن الثقيل تكتب لتناقش قضايا المجتمع المدني والحريات والديمقراطية من وجهة نظر شرعية، وبذلك يرى المراقبون أن الصراع حول هذه القضايا لم يعد صراعا بين تيار إسلامي وآخر يوصف بأنه ليبرالي - علماني، بل بات صراعا داخل الصف الإسلامي. الصف الإسلامي الذي كان في فترة من الفترات يتحرك في طريق واحد نحو الاحتساب وشنّ الهجمات الإعلامية ضد من يسمونهم الليبراليين والانحلاليين، أصبحت بعض رموزه اليوم تتحدث عن (المجتمع المدني) و(الديمقراطية) ومخاطر الاستبداد والمساءلة والشفافية وأهمية الانتخاب... إلخ. وهذا ما يفسر أن كثيرا من الرموز الإسلامية الشابة رفضت الدخول في المعارك السلوكية الاحتسابية (الاختلاط، قيادة المرأة للسيارة، غطاء الوجه، الروايات الأدبية... إلخ)، وأصبحت هذه الأقلام الشابة تتحدث عن حالة البناء والإصلاح، ما جعل كثيرا من الكتاب الإسلاميين السلفيين ينتقدون ما أسموه (السرطان المدني) أو الاهتمام بالعمران المدني وترك المسألة الأخروية. ولعل انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد فتح الباب على مصراعيه لنقاش يتحرك ببطء لكنه مثل كرة الثلج يزداد يوما بعد يوم، فقد ألقى الدكتور محمد حامد الأحمري حجرا ضخما في بحيرة ماء راكدة وقال: "انتصار الديمقراطية على الوثنية في الانتخابات الأمريكية، فاز أوباما وانتصرت ديمقراطية العدد (إرادة الأغلبية)، وديمقراطية الرأي (استمع الناس للرأي الآخر، فأخذوا به)، وديمقراطية المصلحة (فالمعارضة ضرورة لمعرفة الموقف الأصلح)، انتصرت الديمقراطية على العرق (ففاز الأسود)، وعلى الجنس (فكادت أن تفوز امرأة)، نعم لم تنتصر الديمقراطية على الدين، فلو كان مسلما لما وصل، ولو كان عربيا ربما لما وصل، لكن هذا حدث الآن وما يدرينا عن المستقبل، لكن تذكروا أن ولاية نيوهامشير يتنافس عليها شخصيتان من أصل عربي.. لقد تمكن المنهارون عقليا أن يطمسوا أعينهم عن رؤية أهم سبب لتحكم ثلاثة ملايين يهودي في ثلاثمائة مليون عربي!"... الشيخ ناصر العمر وبندر الشويقي وإبراهيم السكران وعبد الرحيم السلمي ولطف الله خوجة، كلها أسماء شرعية لها وزنها، دخلت في خط النقاش البعيد هذه المرة عن الاحتساب السلوكي، وكتبت كلها قبل الأحمري وبعده، أبرزها: تحذير الشويقي للأحمري من أن طريقه في الدعوة للحريات طريق سيوصله إلى العلمانية، وأن عبد الرحمن الكواكبي قد سبقه إليه. اليوم يتواصل النقاش، لكن عبد العزيز قاسم الإعلامي البارز حاول أن يضع النقاط على الحروف، ليكشف بأن الشيخ أحمد قاسم الغامدي ليس هو المهدد الحقيقي للصحوة الإسلامية وللمدرسة السلفية، فمن هو المهدد الحقيقي إذا؟ "الخطر الحقيقي الذي سيواجهه التيار الإسلامي السلفي تحديدا، هو انبثاق شريحة جديدة تطالب بالديمقراطية والآليات المدنية، والحريات والحقوق والمال العام، وكثير من المسائل البراقة التي لا يجد الشباب أجوبة عنها لدى الرموز السلفية، سوى السمع والطاعة دون تفنيد حقيقي لكل ما يطرحه هؤلاء.. ويتأثر هذا التيار بطروحات محمد الأحمري تحديدا، وبعض الرموز الخليجية كحاكم المطيري والغنوشي...". هذا ما يقوله عبد العزيز قاسم، ويضيف: "يا سادة لم يعد يقنع جيل (فيس بوك) و(جوجل) و(يوتيوب) موضوع: السمع والطاعة وإن أكل مالك وجلد ظهرك، لا بد من خطاب عقلاني يتوازى مع ما يطرحه د. الأحمري ورفاقه وتلامذته...". ابتدأت هذه الأيام جولة جديدة من النقاش كان بطلاها (محمد حامد الأحمري) وهو مفكر إسلامي بارز، و(إبراهيم السكران) وهو باحث شرعي وطالب للدراسات العليا في بريطانيا. ولعل مبحث الباحث إبراهيم السكران الذي يحاول فيه الإجابة عن السؤال الكبير (ما منجزات الصحوة؟)، كان المحرض الأساسي لمقالة قوية وحادة كتبها الدكتور محمد حامد الأحمري يريد من خلالها الحديث عن الإنجاز المدني الحقيقي. يقول الباحث السكران بأسى شديد: "يتحمل المرء طعنات العلمانيين والليبراليين وأرباب الشهوات والشيعة.. لكن ما أصعب الأمر حين يكون الغدر من أبناء هذه الصحوة نفسها.. الواحد منهم إذا صادف معرض كتاب، أو زار ستاندرات مكتبة الكتاب، أو قرأ مجموعة روايات؛ جاء منتفخا مزهوا يتوهم نفسه مفكرا اكتشف ما لم يكتشفه الآخرون! مع أن كثيرا من هؤلاء المتنكرين كان جاهزا للانقلاب قبل أن يقرأ أصلاً", ويشير السكران هنا بوضوح إلى أن الصراع حول المنهج لم يعد مسألة بين تيار إسلامي وغيره، بل إن الصراع حول الأوليات بات داخل التيار الإسلامي. ويضيف السكران: "علمتني التجارب الكثيرة مع أصناف المنحرفين أن (شحن الناس ضد الصحوة) هو أول خطوات الانزلاق.. وكلما رأيت شخصا وقع في مصيدة (التجني على الصحوة) قلت لأصحابي هذا إن لم يلطف الله به فسترونه يوما يردد ما يردده الليبراليون والعلمانيون.. فالصحوة حلقة الباب من حركها اتهمناه على ما فوقها", وهنا يضع السكران الصحوة الإسلامية ومنجزاتها معيارا مهما لمعرفة الخير والشر، فهي السد الأخير وما بعده الطوفان. ويخاطب السكران من يسميهم المنتكسين عن خطاب الصحوة الإسلامية من داخل الصف الإسلامي قائلا: "إن كنت يا عزيزي ما زلت متشربا أهواءك في حصر الإسلام في (العمران المادي)، أو حصر الإسلام في (الحرية السياسية)، أو حصر الإسلام في (ما وافق الغرب من المفاهيم)؛ فلا داعي أن تتعب نفسك وتتعبنا معك في البحث عن منجزات الصحوة.. لأن مشكلتك ليست مع (الصحوة)، بل مشكلتك مع (القرآن).. صحح علاقتك بكتاب الله أولا، ثم تعال نتناقش في منجزات الصحوة". ويحدّد السكران في مبحثه عن منجزات الصحوة كالتوحيد ونبذ الشرك بالله ويقول: "وهل انتهى دعاة الشركيات اليوم؟ لا يا عزيزي لم ينتهوا، فانظر الآن في النشاط الغريب للحبيب الجفري والفقيه صالح الأسمري والمحدث محمود سعيد ممدوح، وغيرهم ممن يروجون الشركيات". وبالطبع يرد السكران على التيار الآخر (تيار دعاة المجتمع المدني)، الذي يقوده كما يقول قاسم الدكتور محمد الأحمري ويقول: "أنا أعرف جيدا لماذا خرجت قضية التوحيد والشرك من معاييركم، ولم تعد جزءا من آلية القياس والتقييم لديكم.. السبب بكل وضوح أنكم تشربتم (المفاهيم المادية الغربية)، ولذلك عجزتم عن قراءة منجزات التوحيد ومشكلة الشرك". ويكمل السكران سرد ما يسميه منجزات الصحوة قائلا: "إنها الحفاظ على الشريعة وتطبيق حدود الشريعة الإسلامية ونشر السنن وإماتة البدع ونشر الجهاد الشرعي ومقاومة التغريب والحفاظ على الفضيلة ومقاومة المنافقين والمشاركة في المعرفة والحرص على الفقراء والمساكين"!!! وينهي السكران حديثه بهذا التساؤل: "أنتم الذين ماذا قدمتم بالميزان الشرعي؟! أنتم بتهكمكم بالقضايا العقدية والفقهية صرتم جزءا من المشكلة بدل أن تكونوا جزءا من الحل، تطالبوننا بأن نحتسب على السياسي، المفروض الآن هو الاحتساب عليكم من تحريفكم للشريعة قبل أن نحتسب على السياسي". والخلاصة يا إبراهيم السكران ما هي؟ "إن هذه الصحوة الإسلامية منة الله على هذا العصر.. ووالله العظيم لو كشفت ما بنفسي من التتيم بهذه الصحوة لظنني بعضهم أحد الغلاة في الصحوة". الدكتور محمد حامد الأحمري المفكر الإسلامي البارز خرج ليتحدث ويقول: "مظاهر النكوص عن السعي إلى تحقيق المكاسب المدنية، تتضمن نكوصا عن النهج الذي تحقق في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فما نشر في الآونة الأخيرة من خطابات عدة تحمل روح نكوص حقيقي عن نهج المدينة المتحقق في بدء الإسلام، والتخلي عن المكاسب المدنية المعاصرة". ويشرح الأحمري فكرته التي بات يدعو إليها: "الصورة التي يريدها المجددون ليست تسليم الشيخ ولا المتغرّب مقاليد الحكم، لكن وصول الناس إلى الحق في صياغة حياتهم كما يشاءون عبر نواب عنهم، ويثبت للناس أن القرار إنما اتخذ برغبة من الشعب". لكن الأحمري لم يكف عن مواجهة السكران في مقالته الأخيرة وعرض به تعريضا واضحا: "بعضهم ممن هرب موليا وجهه للغرب ليتشبع بمعايشة المدنية الغربية أو ليهرب من البداوة السياسية، ثم يستغرق في هجاء ما ذهب إليه، فالتمدن اليوم همّ الجميع، على خلاف في نوعه، فحتى الحكومات المتخلفة ترسل المبتعثين راجية أن يرجعوا ببعض التغرب أو التمدين، وما غاية التمدين إن لم تكن حرية وديمقراطية وعلما!". ورغم أن مسألة الانتخاب قد خاضتها المملكة العربية السعودية في تجربة الانتخابات البلدية، إلا أن الأصوات التي خرجت لتحرّم هذه الانتخابات قد ارتفعت لكنها لم تمنع التيار الإسلامي من الدخول فيها، وأبرز هذه الأصوات الشيخ عبد الرحمن البراك، الذي حرّم الانتخابات، وكانت مصادر سعودية قد صرحت لوكالات الأنباء أن المملكة العربية السعودية في طريقها للديمقراطية. ويستخدم توصيف الانحطاط غالبية من ينتمون للصحوة الإسلامية حينما يريدون التعبير عن مجتمع لا يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لا يتمسك بالتوحيد وينهى عن الشرك وأشكاله، ولهذا يرد الأحمري ويبيّن فكرته عن الانحطاط : "إن مما ندعو إليه هو قطيعة مع ثقافة عصور الانحطاط، ولا يحجر على نفسه فيها من عرف مقاصد الشرع واستبصر الواقع واتجه إلى عهد الرسالة والتزم بما ألزمه الله به وما هداه إليه رسوله، ويهتم بما يملي عليه زمانه من مصالح، ويحل ما يواجه من مشكلات بقدرته لا بقدرة سلفه الوسيط، وما عدا الرسالة وعهد الرشد، فتراث وتاريخ.. أفكار، من أحب أن يستغرق فيها فليفعل، ومن هجرها فهو خير له، وهو أقرب أن يتبع هدي النبوة وسنة الراشدين، ذلك أن الخضوع لتراث المسلمين أصبح عند بعضهم بديلا لهدي رسول الله وهدي الراشدين، وبديلا لما تمليه ضرورات الزمان، واستسلاما لثقافة عصور الفتن، وجلبا لها قسرا إلى زماننا؛ لما تملؤه من فراغ وما تبثه من تسلية وأوهام، أي حمق يدور اليوم للمشغولين بمشكلات الصوفية والأشعرية والمعتزلة والشيعة والسلفية، وكأن أهوال العراق وفلسطين وأفغانستان والسودان والديكتاتورية في فلك آخر". القوائم البريدية والمواقع الفكرية والمنتديات لا تزال توحي بأن سجالا جديدا لم يتوقف، وسنحاول في (عناوين) متابعته لنسلط الضوء على معركة فكرية يحاول الإعلام بشكل متعمّد، على ما يبدو، غضّ الطرف عنها.