لن نسيء التقدير، أو يخوننا الحكم، إذا ما قلنا إننا أمام حدث جنائي لا يتفق مع توجهات المملكة، وسياسة قادتها، وتعامل شعبها، إذ على امتداد التاريخ لم يسجل على المملكة حالة واحدة كحالة مقتل الزميل جمال خاشقجي – رحمه الله – في القنصلية السعودية في إسنطبول. ** ما حدث كان صدمة للقيادة والشعب، استغل دولياً أبشع استغلال، وتحولت الحادثة من مواطن سعودي قتل في قنصلية بلاده، إلى استخدامه لتنفيس الآخر عن مكنون الحقد والكراهية والتآمر على بلادنا، ومحاولة إلصاق مقتل الزميل، وكأن المملكة هكذا تتعامل مع من يعارضها من المواطنين. ** ولأول مرة في التاريخ يتم التعامل سياسياً وإعلامياً مع حدث كهذا بمثل ما تم التعامل فيه مع المملكة، إذ على كثرة الجرائم التي ارتكبت بجميع دول العالم، وبحق شخصيات أكثر أهمية من زميلنا جمال، فإن التعامل معها كان يتم بهدوء، ولا تعطى المتابعة الإعلامية لها أكثر من يومين، وفي عدد من وسائل الإعلام، ووقت محدود. ** في حالة الخاشقجي، لم يكن هذا الاهتمام الإعلامي غير المسبوق، وهذه النفرة الدولية للدفاع عنه، هو من أجله، وإنما استخدام هذا الخطأ الجسيم الذي أودى بحياته للنيل من المملكة ورمزها الكبير محمد بن سلمان، فقد أسقط في يد الأعداء فشلهم في إضعاف القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والأمنية للمملكة، ومكانتها الدينية، فلم يجدوا أفضل من مقتل المواطن السعودي الصحفي جمال خاشقجي فرصة لهم لعل وعسى أن يصلوا إلى مبتغاهم. ** فتحت الخزائن، وأرخص المال، وتجرّد الإعلام من رسالته، وتحول إلى أبواق وأقلام رخيصة، وإلى دخلاء عليه، وبانت حقائق من كان يخفي من الإعلاميين والسياسيين موقفه المعادي للمملكة، فإذا بهذا الحدث يفتح الطريق لهم لتقديم كل ما يرضي أسيادهم، طالما أن وسائل الإعلام أصبحت دكاكين للبيع والشراء. ** أي إعلام هذا الذي تعامل مع مقتل جمال خاشقجي بهذه العدوانية للمملكة، ووظّف هذه القضية لمآربه المكشوفة، كما لو أنها تحدث في العالم لأول مرة، ولأهم إنسان، وكأنها تأتي ضمن سلسلة من الممارسات المماثلة والمستمرة التي تقوم بها المملكة، أو تلجأ إليها ضد من يُقال عنهم إنهم معارضون لسياساتها من الإعلاميين. ** قتلت رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي، ثم رئيسة الوزراء الباكستانية بنظير بوتو فلم تتحرك الضمائر لكشف المخبوء في قضية اغتيالهما، واستبيح دم رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري فلم تذرف الدموع على فاجعة اغتياله كما هو مع الخاشقجي، وقتل أيضاً من رؤساء لبنان ورؤساء وزارتها بشير الجميل، ورينيه معوض، ورشيد كرامي، فلم نكن أمام حشد سياسي وإعلامي يدافع عن حقوق الإنسان كما هو الأمر الآن، ولم يغب الأردن من استهداف رموزه، فقد كان رئيس الحكومة وصفي التل ضمن من اغتيلوا غدراً، ومر الحادث كما لو أنه حدث عابر، وكان الرئيس المصري أنور السادات على موعد مع القتل فلم يحرّك مقتله شعرة في رؤوس من دفعوه للاعتراف بإسرائيل، والقائمة تطول، فقد قتل الأديب والقاص يوسف السباعي، ومثله عددٌ من الصحفيين والكتَّاب، وكان التعامل مع مقتلهم هيناً ليناً، ولاحقت إسرائيل كل معارضيها من الفلسطينيين من لبنان إلى تونس مروراً بكل دول العالم وقتلتهم واحداً بعد الآخر في منازلهم، ولا ننسى مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، والدبلوماسيين الأربعة الذين قتلوا في تايلند، وكان العالم بمؤسساته الإعلامية والسياسية متفهماً ومتسامحاً، والقائمة تطول. ** أسأل بعد هذا: لِمَ كل هذا التباكي على مقتل الزميل العزيز جمال خاشقجي – رحمه الله – إعلامياً وسياسياً بهذه اللغة الوقحة، وتحويله إلى بطل وشخصية إعلامية عالمية، إن لم يكن الغرض من ذلك محاولة تشويه صورة المملكة، الذي يعرف القاصي والداني في العالم أنها تنبذ العنف والتطرف والإرهاب، وتدعو إلى التسامح والوسطية ومعالجة الخلافات بالحوار والتفاهم، وهو ما جعل قناة الجزيرة وقناة السي إن إن، وصحفاً مثل النيويورك تايمز، والواشنطن بوست وغيرها، تلغي أغلب برامجها، وتخصص ساعات طويلة من بثها وصفحاتها عن حدث مقتل جمال خاشقجي، مدعومة بالمال من دولة قطر نكاية بالمملكة التي قادت مقاطعتها مع الإمارات ومصر والبحرين بسبب تبنيها للإرهاب. ** هذه هي قصة التباكي الإعلامي والسياسي وعلى نطاق واسع في مقتل جمال خاشقجي، الهدف ثني المملكة عن مواقفها الثابتة من إسرائيل، وإصرارها على عدم الاعتراف بها، لأن اعتراف الدول العربية والإسلامية الأخرى مرهون باعتراف المملكة، فضلاً عن استقلالية قرارها في الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية كدولة كبرى لا دولة تابعة يملي عليها القرار، وهو ما يغضب الدول الكبرى، ويجعلها دائماً في حالة ارتباك من مواقف المملكة، مع عدم قدرتها على ثنيها أو تليين مواقفها متى كان ذلك لا يتماشى مع مصالح المملكة. ** لقد كشفت قصة مقتل الزميل جمال، كثيراً من التفاصيل التي كنا نحتاج إليها، سواء عن تواضع مستوى الأجهزة الإعلامية بالمملكة، أو علاقات المملكة بمن يسمون الأصدقاء والأعداء وضرورة مراجعتها، كما كشفت عن صلابة الموقف غير المهادن في سياسة المملكة للحفاظ على مصالحها، وعلى حجم التآلف والتلاحم بين المواطنين وقيادتهم، ضمن أمور أخرى كثيرة لا بد بعد أن تهدأ العاصفة المفتعلة، ويسكت الصوت العدواني من إعادة النظر في كثير مما كان يعتبر من المسلَّمات التي لم نفكر يوماً في المساس بها أو الاقتراب منها. خالد بن حمد المالك (الجزيرة) الوسوم العاصفة القذرة مواجهة