هل جربت يوما شعورا بالامتلاء؟! لا، لا تذهب بعيدا بتفكيرك فلست أعني الشعور بتخمة في البطن بعد وجبة دسمة، وإنما أردت الشعور بالامتلاء الفكري والشبع الثقافي والتخمة الذهنية بالأفكار البناءة والخواطر الإصلاحية الهادفة. تلك الخيالات المتفتقة عن ذهنك الوقاد، التي ترغب في التحرر والانطلاق لترى النور وتحلق في سماء الواقع، تحب الكتابة والتأليف ولديك قلم سيال وفكر صافٍ ولكنك تتوقف لتبحث عمن يحتضن تلك الملكة المتألقة، عمن يدعمك في نشر آثارها. تعشق تقديم الخدمات الإنسانية وترى نفسك ناجحا في ميدان العلاقات الاجتماعية والتأثير الجماهيري وتنمية وتطوير الموارد البشرية لكنك لا تجد من يحتوي تلك المهارات العليا لديك ولا من يساندك في تحقيق تلك الرغبات التي قد تعكس تطويرا مجتمعيا وخدميا عالي المستوى لو وجدت تلك البذور الرعاية والاهتمام الكافيين ولاقت من يتعهدها بالسقاية دون قيد أو شرط، لا لحظوظ شخصية ولا لمسائل ربحية وإنما فقط لرغبات صادقة لدى أولئك الداعمين في النهوض بالمجتمع وتقليد كفاءات مؤهلة ذات جدارة علمية وخلفية ثقافية رصينة - تقليدها مناصب تستحقها بنزاهة وشفافية. فلو كنت أحد أولئك الإنسانيين المبدعين حسب مقياس بوصلة التفكير (بوصلة هيرمان) الذين انتظروا طويلا في محطات الانتظار ووجدوا من سبقهم ممن هم دونهم كفاءة وأقل منهم جدارة ليتصدروا تلك المحافل. هنا، سيزداد شعورك بالامتلاء بل وربما يساورك الشعور بالرغبة في استفراغ ما لديك من خبرات متراكمة وقصص نجاحات ملهمة لم تحظ مع الأسف بالتفاتةٍ نحوها، قرأت قبل فترة مقالا بعنوان (مت فارغا) وهو خلاصة مترجمة لكتاب باللغة الإنجليزية، يحث فيه على إطلاق كل الطاقات الكامنة في جوفك والإبداعات العملاقة الخفية في باطنك - إطلاقها كلها في حياتك - وأن عليك أن تذهب لقبرك خالي الوفاض فارغ الجوف من كل علم وخبرة لأنك باختصار كنت قد أفرغتها في عقول الآخرين وأديت زكاة علمك بذمةٍ وإخلاص. حدثتني إحداهن فقالت: أحب اللقاءات الجماهيرية وأعشق عقد البرامج التدريبية لتنمية الموارد البشرية، فحصلت على رخصة مدرب معتمد كلفتني بضعة آلاف من الريالات وبعدها قرعت عددا غير قليل من أبواب مؤسسات التدريب ومراكزها في إدارتي وفي غيرها. ومرت سنوات حتى تقادمت شهادتي ولم أُمكن من ممارسة مهارتي التي تميزت بها من بين جميع المتدربين في دفعتي وطالما حلمت بها. وقالت أخرى: سعيت جهدي لأحقق حلمي في الكتابة والتأليف ولم أوفق وفي كل مرة أرى من حظوا بنصيب عالٍ من الشهرة والمكانة الاجتماعية يمتطون صهوة الكتابة ويعتلون منابر التأليف ويستحوذون على ألمع دور الطباعة والنشر، هم هم، يتصدرون واجهات المكتبات في زاوية (الأكثر مبيعا). ليتنا -إزاء هذا الزخم الثقافي الهائل- نسهم في صناعة ناشئة صاعدة من الأقلام والكفاءات الوطنية الواعدة، ونزيح الستار عن المواهب الكامنة ونسمح بتمكين الجدارات قبل لمحسوبيات، وتوظيف الصالح منها في مكانه الملائم لإفراغ ما لديهم من طاقات وإشباع الجيل بها قبل أن يرتحلوا عن ركب الحياة وجرابهم لا تزال مملوءة.