العودة إلى التاريخ ضرورة حتمية لقراءة الواقع واستيعابه. إنها من أبسط القواعد التي يستند عليها الباحث في شؤون العلاقات الدولية، أو علم الاجتماع السياسي. وهكذا حين تفهم تاريخ الأفكار، وتستوعب طريقة تحولها، من فكرة محضة، إلى فكرة سياسية، واجتماعية، ترى كيف يمكن لفكرة عارية، أن تتحول لتصبح ظاهرة مجتمع، وصوتًا معبرًا عنه. ولذلك أعود إلى العام 2003 الذي أراه بداية المرحلة الطائفية البشعة التي عانت منها المنطقة لأكثر من 15 عامًا. ورغم أن بشاعتها تبدت في دول الهلال الخصيب، إلا أن تلك الأصوات، بسبب تأثير الإعلام، وقوة الصوت والصورة، وجدت لها ألف طريق في الخليج، وأثارت كثيرًا من الجدل بالتأكيد. كانت الصورة الطائفية التي لونت بعض أجزاء المنطقة، مشهدًا بشعًا من تأثيرات احتلال العراق. تنبّه المجتمع الواحد إلى الفروقات بينهم. ونظرًا لأن مفهوم الدولة الوطنية في الخليج وصل إلى حد لا بأس به، فإن البعض حاول الهروب إلى الماضي، ليفتش عن صراع يكون صداه الخاص لما يحدث في المنطقة من استقطاب طائفي محموم. فجأة بدأ البحث عن ذلك الذي كان هناك، وذلك الذي كان هنا. عن الموجودين في الصفحات الأولى في تاريخ الإسلام، وأولئك الذين في منتصفه. أصبحنا نفتش في جيوب بعضنا البعض، كي نعرف مع من نتعامل، وكيف نثبت خطأه وصوابنا. لقد كان مشيًا مؤلمًا على أسنة الرماح، وفوق حراب الماضي. بيد أن العزاء الذي يجده الباحث في التاريخ، هو أن ما يحدث يكون له أثر إيجابي بعد حين. إن بداية المرحلة الطائفية في أي مكان، هي نهايتها. ونظرًا لأن المرحلة الطائفية في المنطقة قد أخذت مداها الزمني بشكل كبير، فقد كانت تلك فرصة ليستوعب الناس أن هذه مرحلة بلا مستقبل، وأن العيش وفقًا لطائفة، أو عرق، على حساب آخر، هو أمر مستحيل. إن المرحلة البشعة هذه أيقظت الإنسان داخل الإنسان، ليستوعب أن إلغاء الآخرين أمر يصعب فرضه في مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، مهما كنت تملك الأدوات والأسلحة. بعد أن تُنهَك الأسلحة، والمتسلحون، ستبرز الفكرة التي قامت عليها الخليقة منذ آلاف السنين، وهي ألا أحداً مهما كانت قوته، يستطيع أن يغير الآخر بدون اقتناعه. فلننظر إلى المقلب الآخر من الكرة الأرضية. هناك في الغرب، وفي أوروبا بالتحديد، استمر التقاتل عقودًا بين الكاثوليك والبروتستانت. كانت الخرائط، والزعامات، تتعمد بالدم في كل يوم. كان الثمن بشعًا. عشرات الآلاف من القتلى من الجانبين. عقود من الألم، والدمع، والدم. ومع كل ذلك الحشد، والتقاتل المرير، لا تزال أوروبا كما هي، ملوّنة باختلافاتها، وآرائها، لكن الإيقاع مضبوط بقوانين تراعي ليونة الفكر، وانسيابية الحركة، والبحث، ضمن حدود أخلاقية، وإنسانية، لا تسامح في تجاوزها أبدًا. حتماً سيستوعب العنصريون، والطائفيون، أن التعايش أهم من الحوار، وأنه لا يمكن أن تلغي شخصًا من الحياة، أو ترسله لمريخ، لأنك لا تطيقه!