تغيب عنا أجساد الرجال وتبقى ذكراهم العطرة ، فتمام الوجود إنما يرتبط بخلود الأفعال وحسن الخصال وعمل الخيرات، ولنا في كرام الناس الراحلين مثل، فهذا الدكتور غازي القصيبي رحمه الله واسكنه فسيح جناته يغادرنا بعد مسيرة حافلة في خدمة وطن ومليك، يستقر عند ربه، لكن الوطن ورجاله المخلصين لن ينسوه فأقواله وسياساته وإرثه الأدبي حاضر في كل زاوية من زوايا البلاد. وللمرحوم أفعاله التي يعرفها كل الناس قاطبة، وقد كتب كثير من الرجال عن فكره وعلمه و رؤاه ، لكن الجوانب إنسانية بقيت بعيدة عن المعرفة، حتى سلط عليها الضوء الأستاذ حمد بن عبد الله القاضي عضو مجلس الشورى، ومحتوى الكتاب عبارة عن محاضرة ألقاها القاضي في نادي المدينةالمنورة الأدبي ، جاءت صفحات الكتاب من القطع المتوسط، وبلغ عددها ست وخمسين صفحة. وحرص المؤلف كما يقول على ألا ينطلق من وحي عاطفته نحو الراحل، حيث جعل المواقف العاطفية التي وقف عليها هو شخصياً تملي عليه ما يكتبه، ويحكي المؤلف في كتابه كيف كان يؤطر الدكتور غازي القصيبي العمل الإداري بالإنسانية، فحيث ما كان مديراً أم عميداً أم وزيراً أم سفيراً ينجح , دافعه في ذلك حبه لوطنه، معتمداً محاربة البيروقراطية، حريصاً على إعطاء الصلاحيات لمن تحته في السلم الإداري، ومعتمداً أسلوب الحوافز المادية والمعنوية لمن يعملون معه، وطريقة الزيارات المفاجئة التي اعتمدها كأسلوب لمحاربة التسيب والإهمال في بعض المستشفيات حينما كان تسلم وزارة الصحة. ويتحدث القاضي عن الجانب الإداري الحازم الذي يقابله في نفس الوقت جانب إنساني تؤطره الرحمة ويصل في بعض الأحيان للضعف خاصة تجاه المرضى والمحتاجين أو من هم أقل منه مركزاً إدارياً أو مالياً، فتراه كما يقول المؤلف يتفقد أحوال موظفيه الشخصية وأحوال أسرهم، ويعايد كل موظف ببطاقة عليها توقيعه، بل إنه يطوع النظام لمراعاة المنحى الإنساني، حتى أنه وضع شرطاً ألا يتم نقل أي موظف وعنده ظروف مرضية أو عند والديه أو أحد أفراد أسرته. وتكمن الغرابة في شخص الراحل أنه رغم كل نجاحاته والتزاماته الوظيفية إلا أنه غزير في نتاجاته الثقافية حيث أصدر سبعين كتاباً خلال سبعين عاماً من حياته، مرجعاً المؤلف هذا النجاح الغريب إلى قدرته العجيبة على إدارة الراحل للوقت ونأيه عن المجاملات التي تضيع وقته، كما أنه دائماً ما يعزز قيم المحبة والسلام والتسامح والرحمة في أدبياته. ولم يكن عمله في وزارة الصحة مقتصراً على إنجاز المشروعات بل حفل كثيراً بالجانب الإنساني للمرضى، فطرح فكرة لجان أصدقاء المرضى، لتقوم بأدوارها الإنسانية كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني، كما وضع بطاقات موقعة باسمه مع دعاء بالشفاء تعطى لكل مريض يدخل أحد المستشفيات بالمملكة وأمر بوضع الآية الكريمة «وإذا مرضت فهو يشفين» في المؤسسات الصحية لتزرع الإيمان والطمأنينة في نفوس المرضى. وهو الذي كان وراء تأسيس جمعية الأطفال للمعاقين، بل إن قيمة أعماله الإنسانية أدت إلى تركه لمكتبه ذات مرة ليقنع أحد الأشخاص بالغسيل الكلوي، وقصة ذلك المستخدم الذي دعاه واحتفى به كوزير، وفي نهاية الكتاب أورد المؤلف عشرة نماذج من شعر الراحل الإنساني.