المسافة بين الرياض وبين الجنادرية مسافة بين الحلم وبين الذات، تتسع وتضيق وفق ما تسلكه من طرق، ووفق ما يتملكك من رؤى ومشاهدات ووفق ما يدور حولك من أحداث. تلك هي المرة السابعة والعشرون التي سنسلكها إلى الجنادرية، في كل مرة تتبدل الأشياء وتختلف الأحداث وربما الوجوه أيضا.. تحذف من ذاكرتك وتضيف وفق مقتضيات الحلم الذي تجسده الجنادرية والذي تجسده أيضا القضايا العربية فكلتاهما دفاع عن الذات والهوية العربية، دفاع عن غزو الآخر واحتلاله، وكلتاهما تجسيد للحلم العربي الذي بتململ في الذاكرة بين الحين والآخر. حولك رموز الثقافة السعودية و العربية (لا يسعك إلا أن تقبل ذلك) هم الآن خارج كهنوت الثقافة وصومعات الإبداع تنصت جيدا، تحاول إلا تفر منك الكلمات، وتحاول أن تصدق ما يقال ولكن.. لا يسعك في النهاية إلا أن تصدق حلمك، وأن تمحو من ذاكرتك بعض الوجوه وبعض الأشياء عندما تجد في ردهات الجنادرية من هم أصدق ومن هم أبقى، ومن هم أجدر - هؤلاء الذين صنعوا هذا التراث، وأبدعوا هذا الموروث في ظل ظروف أصعب من أن يعيشها إنسان - تقف مشدوها أمامهم، ولا يمنعك من التوحد بهم إلا إحساسك بأنك تعيش عصرا آخر، وأمامك قوى أخرى تتخذ من معطيات العصر العلمية والتكنولوجية والفكرية سلاحها الذي ترفعه في وجهك يتبادر إلى ذهنك وأنت تنظر إلى تلك السيوف القديمة الرائعة سؤال: ماذا فعلته القنابل الذكية وأسلحة الدمار الشامل وتلك الضجة التي أحدثتها؟ عندها تعود إلى حظيرة العصر وعليك أن تقبل التحدي. في الجنادرية، تشعر بالرهبة أمام الرمال التي تحيطها وتحس بأنك أمام بحر من الأسرار لم يبح إلا بالقليل.. عليك أن تستنطقه وعليك أن تعرف منه الكثير عن الوجوه التي ضاعت بين أمواجه والأقدام التي غاصت في أعماقه، والتحديات التي واجهت مسيرته الزمنية ليضحي في النهاية تاريخا طويلا وأحداثا عديدة تمر أمامك، كشريط في الذاكرة. وأنت في الجنادرية تنسى من حولك ولا تتذكر منهم أحدا ولا تسمع لأحد إلا صوت الماضي الذي يحاول عبر تلك الأدوات وعبر هذه الوجوه التي تحاول أن تجسد الماضي بكل صدق واجتهاد. تنسى من حولك من الأسماء التي علقت بذهنك من كثرة تداولها، ولا تتذكر أحدا إلا وأنت على باب قاعة الندوات، عندها تلج إلى العصر، تنظر حولك لتطالع الوجوه التي بدأت تشعر بالأمان بعد تلك الرهبة والضآلة أمام ما شاهدته منذ لحظات، كل يتقمص دوره جيدا، وتبدأ اللعبة التي يجيدها البعض.. لعبة الثقافة والندوات والمناقشات وعصرنة العقل العربي، وتتبادر إلى ذهنك قضية أخرى وهي قضية الكتابة في المهجر أو المنفى، وتحس بأنها جديرة بالمناقشة عندما تشعر بأن البعض يتحدث كمستشرق.. وعندها تشعر بأهمية الجنادرية، وضرورة أن تكون وأن تبقى مهما كانت التحديات والظروف، تدور برأسك في القاعة، يتملكك الفرح وأنت تشاهد مثقفي هذا الوطن ينصتون ويشاركون بوعي وإدراك لما يدور حولهم، وتستطيع أن ترصد لأجيال مختلفة تتجاور، أسماء كثيرة ترصد لها، تتعدد بتعدد الأفكار والاتجاهات.. الكل يشارك ويسهم ويتحاور ويختلف وتلك ظاهرة صحية ندرك معها أهمية الجنادرية، وأهمية أن يكون الحوار بعيدا عن المهاترات، فالجميع ينشد رفعة هذا البلد وأمنه وأمانه والجميع يدرك ضرورة أن يعيش هذا الوطن إيقاع العصر، ولنا فيما يدور حولنا من تحديات عبرة فقد أضحى العالم قرية صغيرة وعلينا أن يكون لنا موطئ قدم في هذه القرية ومكان نطل منه لنرى ما يدور حولنا ليس هذا فقط، بل ونشارك فيما يدور، لأننا من عناصر اللعبة الهامة وعلينا أن ننظر إلى ما تحويه الجنادرية وإلى ما تعج به الرياض من عمران لندرك لماذا؟ ونعود إلى قاعة الندوات لنرى أن الثقافة العربية همها واحد، وقضيتها واحدة وإن تعددت الأقطار والأشخاص والأفكار ونخلص من كل ذلك إلى أهمية أن تبقى الجنادرية رمزا، وأن تكون هناك في ربوع العالم العربي أكثر من جنادرية.