كنا قد تحدثنا في الجزء الأول عن ملف السعادة، الذي نشرته مجلة ناشيونال جيوغرافيك، واختارت فيه النرويجوكوستاريكاوسنغافورة بوصفها أكثر شعوب الأرض سعادة، وأوضحنا أن تلك البلدان لا تتفق في أي شيء مادي ملموس، أو مستوى تنموي وتقدم تكنولوجي متقارب. لكن المعوّل كان على ذلك الجوهر، الذي بحث عنه معدو الملف في وجوه الناس وسرورهم، وتمتعهم بالمرح والحياة غير المتكلفة. ومن ضمن الأشياء التي أثارت استغراب الفريق الصحفي، أن كوستاريكا على سبيل المثال لا تملك جيشًا عسكريًا على الإطلاق، فقال أحد أعضاء الفريق سائلًا أحد المسؤولين: ألا تخشون من اعتداءات عسكرية عليكم، وأن تكون جهود التنمية لديكم تضيع بسبب عدم قدرتكم على حمايتها بالقوة الدفاعية؟ فأجابه: لو كنا سلكنا هذا الطريق، لما حققنا تنمية أصلًا، خاصة أننا بلد صغير، وغير متقدم في الصناعة. فستكون أغلب الموارد معدة لاستيراد السلاح وصيانته وتجديده من فترة إلى أخرى، إضافة إلى اتجاه كثير من القوى العاملة إلى ذلك المجال غير المنتج. لكننا الآن حققنا مستوى من الرفاهية، ورضا الناس عن بلدهم، مما يجعلهم يدافعون بكل ما يملكون عن تلك المكتسبات. وفي سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة، التي كانت مرتعًا للفقر قبل عقود قليلة من الزمن، حصلت المعجزة الاقتصادية نتيجة التركيز على التعليم ومحاربة الفساد، والبناء التنموي بجد وعدالة مع الجهود التي يجري تقدير أصحابها بغض النظر عن أصولهم العرقية أو مذاهبهم الدينية. وقد تابع العالم أخيرًا اختيارهم رئيسة مسلمة، من أقلية صغيرة في البلاد، وذات أصول مختلفة عن أغلبية السكان. أما النرويج، فهي البلد الذي يعد أحد أقل بلدان أوروبا سكانًا، لكنه أكثرها غنى، إذ لم تخرج خلال العقد الأخير عن المراكز الخمسة الأولى في أعلى دخل للفرد في العالم، وفي هذا العام احتلت المركز الأول، وكذلك تتنافس مع سنغافورة وفنلندا دائما على المركز الأول عالميًا في مستوى التعليم، مثلما تنافسها أيضا في الخلو من الفساد. وماذا عن جوهر السعادة على المستوى الفردي، إذا لم يتحقق لبعض المجتمعات على المستوى الجمعي؟ هناك من يصف السعادة الفردية بأنها قرار، وليس مقومات موضوعية موجودة في المحيط الاجتماعي، أو متطلبات خارجية. وضمن هذا المفهوم أصبحت بعض الشعارات رائجة للحث على اتخاذ هذا القرار، فهو في النهاية خيار، وليس مصيرًا محتومًا. لكن هذا لا يعني أنه خيار سهل، إذ يتطلب مكاشفة مع النفس، وشجاعة في ترك كل ما يسبب الكدر للإنسان في الحياة، حتى لو أرغمته المسالك الاجتماعية المعبدة على اتباعه. فتجارب الناس في حياتهم مصدر خصب لاستخلاص العبر في معرفة طرق الهناء ومهاوي الشقاء، لكن قليلا منهم يستطيع مراجعة تاريخه، والخلو مع نفسه، لجرد تلك السيرة الماضية، ومعرفة ما الذي يمكنه الإبقاء عليه، أو تقويته فيما يأتي من الزمان، وما الذي عليه اطراحه تماما، والتخلي عنه من أجل الخلاص من تبعاته السلبية. إذن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف قصيرة، لكنها صعبة، إذ تتطلب قدرة على النفاذ إلى الداخل، ومصارحة مع الذات، قبل أن يتخذ المرء القرارات، التي لا يتراجع عنها من أجل مجاملة الناس والأطر السائدة اجتماعيا، وإلا سلبت منه تلك القدرة على القرار، وعاد إلى دوامة الموازنات.