الكاتب الذي يبدأ مقاله بجملة «مما لا شك فيه» ثم يأتي بالمبتدأ رافلا باليقين تحف به الجرأة، وتفتح له البلاغة ذراعيها، هذا الكاتب هل وقف قليلا متأملا في ما تتطلبه جملته تلك؟ إنها تتطلب أن يكون عالما نفسيا واجتماعيا وتاريخيا وفيلسوفا وملما بعلم الجمال وعلم الاخلاق ويملك حدسا جادا حين يتنبأ بالمستقبل، وكل حقل من هذه الحقول يتطلب جهودا متواصلة حتى مطلع اليقين. هذا الكاتب يغلق كل نوافذ الاحتمال، ويعتقد أن الثبات هو القاعدة الراسخة، فالذي لا شك فيه يبقى أبديا وخارج الزمان والمكان، أما الذي فيه شك فقد انقرض منذ الطوفان، ذاك الذي عناه أبو العلاء: الأرض للطوفان محتاجة لعلها من درن تغسل يقول الفيلسوف باشلار: «إن الذي يبقى دائما هو الذي يتجدد». أما محمود درويش فهو يخاطب كل واحد منا قائلا: «شذ شذ بكل قواك عن القاعدة». القاعدة والنموذج والمثال تحيل الآفاق الجمالية والفكرية إلى أقفاص لا يمكن الخروج منها الا بإبداع قاعدة جديدة ونموذج ومثال جديدين واعتبار الذاكرة صنما. من أجمل ما قرأت في هذا المجال مقالة خصبة للكاتبة في هذه الجريدة الغراء الأستاذة/ طرفة عبدالرحمن.. كتبت في 8/4/2017 تقول: «إذا أردت أن تعرف علامات التضليل العقلي التي يعانيها أي إنسان.. فانتبه إلى درجة اليقين التي يتكلم بها في قضاياه.. فالعقول المضللة تتحدث دائما بيقين مؤكد في القضايا التي تعرضها، واليقين دائما ضد المعرفة والتعلم، لأن العلم برمته يتطور ويرتقي بالشك، والبحث عن إجابات لأسئلة متوالدة لا تنتهي». من هنا تبرز أمامنا مشكلة أخلاقية: فالكاتب «المضلل للعقول» يرتكب جناية سوداء في حق قرائه، وحق الأمانة الأدبية التي من المفترض أنه يعتبر مسؤولا عنها، ومن هنا كذلك تنبع مسألة الحرية: فالمسؤولية الكتابية تتطلب حرية التفكير والتعبير، وإلا أصبحت مجرد كلمات عمياء تقود قراء بلا رؤية. الكتابة مقاساة كما تقول الشاعرة مستورة العرابي: «.. أتلو مواويلي لأصعد سلم الرؤيا أفكر في صفات الكأس في جدوى الندامى في السريرة آخر الليل المراوغ في الكتابة والكتابة ما أقاسي..».