كلما عاينت إحدى الإدارات في مجتمعنا العربي أصاب بنوبة حزن على ما نحن عليه، فعن أي تنمية وتطور نتحدث وإداراتنا في القطاعات العامة قبل الخاصة تعاني اهتراء لا يمكن «ترميمه» إلا بإدارة سوية لضمان النجاح؟!!. أكاد أجزم بأن أغلب من يمتلكون مسئولية ما بالقطاع العام بالذات، من خلال العدوى المنتشرة بين فريق العمل، هم بحاجة أولا لاخضاعهم لبرنامج تأهيلي في فن التعامل والإدارة. فأغلبهم يعاني انعدام الثقة ما يجعله يغرق الفريق في مشاكل ذاتية، أو تعريضهم لسلسلة من الضغوط الإدارية وبالتالي النفسية للسيطرة عليهم. وإن كنت أرى في هذا التسلط قدرة جبارة على المعايشة ولكن نتائجها بالطبع سلبية جدا. فالنتائج المترتبة على مثل هذه البيئات تنعكس سلبا على الخدمات التي تقدم للأفراد بسبب انعدام جودتها. كم وددت أن نتعلم من تجربة اليابان، كم أتمنى أن تدرس النظرية اليابانية في الإدارة الحديثة بالمدارس الإعدادية والثانوية وفتح معاهد للتدريب والتأهيل لصقل هذه النظرية وهضمها جيدا. هذه النظرية التي تسمى نظرية ال(Z)، تعتمد على ثلاثة عناصر تشابه كثيرا الحرف اللاتيني هذا في تماسك أضلاعه الثلاثة حيث تعتمد على «الألفة، والثقة، والمودة» لفريق العمل الواحد. وذلك من خلال الارتكاز والاعتماد على مبادئ: الاستقرار الوظيفي، المشاركة وروح الفريق الواحد، تكافؤ الفرص، والعدل والمساواة في المسؤوليات وتحمل النتائج، تطوير المهارات، الشمولية والسعي للكمال في العمل، الجودة والتي تعتمد على مبادئ ديمنج الأربعة عشر -سبق وتحدثت عنها في إحدى المقالات- وهذا المبدأ -الأخير- هو الناتج وخلاصة العمل. فالنظرية (Z)، والتي تعني (ZeroError) أو «صفر أخطاء» أو «الخطأ الصفري» تعتمد بذلك على كل ما ذكر من فريق وبيئة عمل ناجحين مما يترتب عليه جودة عالية وخدمات ممتازة بلا أخطاء ولا استياء. هذه النظرية بالذات تعالج مشاكل باتت متفشية في بيئة العمل لدينا بالذات كما أسلفت في القطاع العام، مما ينعكس سلبا على الخدمات التي تقدم للمواطنين والأفراد بصورة تثير الاستياء والتذمر، فالمشكلة تكمن في أغلبها في من أعطوا مناصب مسئولة في الإدارة وهم غير مؤهلين لشغلها إما لافتقارهم الشخصية أو الإدارة اللازمة في تحمل مسئولية المنصب، وترتبت على ذلك نتائج تثير استياء متلقي الخدمة. ولا تثريب إذا ما عرفنا أن تلك المسئوليات في مجتمعنا لا تعد «مسئولية» إنما هي «وجاهة وحظ وتشريف» تعطى إما بسبب وراثة أو لفساد إداري وخلل، أو بسبب محسوبية ناتجة من مقايضة ما، لذا يكمن العلاج الحقيقي في محاربة الفساد بأنواعه الذي يفتك بنا، وإصلاح التعليم والتدريب. ولنأت للحديث عن تلك النظرية التي دفعت بالمجتمع الياباني الى التقدم بعد حرب طاحنة، تعتمد النظرية اليابانية على تهيئة بيئة العمل بطريقة لائقة، وتسهل لأي عامل مهما كانت قدراته الاندماج فيها والتطور بمساعدة الفريق الذي هو فيه، وفي حال عدم تطوره فيتم تحويله لدائرة أخرى حتى يستطيع الاندماج الكامل في الفريق وإبراز مهارات نوعية وبالتالي النجاح له وللفريق كله، ولذا فإن فريق العمل يجب أن يكون متجانسا ومنسجما وهو يحتاج لقائد متمكن، ولا يكون القائد هو المدير بل هو أحد أفراد الفريق ويكتفي المدير بتوزيع الأدوار والإشراف على الفريق، لذا يكون لقيادة الفريق دور كبير، فقائد الفريق سيكون هو المدير الفعلي، على أن تكون النتيجة باسم الفريق كله فلا يبرز أحد على كتف الآخر ولا يتسلط ولا يترأس ولا يخرج نقصه على من هم معه بل إنهم يتشاركون جميعهم لصنع النجاح وليس للسيادة والزعامة، لذا فأي خلل في أحدهم سيؤدي لفشلهم، وعليه يجب إصلاح الفريق بشكل جماعي. أما في مجتمعنا المهووس بالقيادة، والتطلع للكمال الصوري بإظهار عورات وضعف الآخرين، يعتبر المنصب المسئول هو منصب إشرافي رفيع يحسب صاحبه أن لديه كامل الحق في استعباد من يرأسهم ويساعده في ذلك غياب الرقابة والمساءلة، ووضع نتائج وتقييم ومستقبل الموظفين رهن يديه وتحت رحمته، ويكون بذلك قد تسلط عليهم وكأنهم سخرة يعملون تحت أمرته وليس زملاء عمل يعملون «معه»، فهناك سوء فهم واسع في استيعاب هذا المعنى بين العمل مع أو العمل تحت امرة أحدهم. لذا فهذه المسئولية وبدل أن تكون سببا للدفع نحو الإنجاز والنجاح والجودة تكون سببا لأن يفقد بعض المسئولين الذوق العام وحسن التعامل والأخلاقيات المهنية والافتقار للاحترام فيسيء متعمدا للموظف في دائرته ويعامله بتعالٍ واستحقار للنيل منه بكل ما أعطي من مقدرة عليه وفقا لدرجته الإشرافية تلك، لذا نحن لا نجد فريق عمل على الإطلاق بل نرى خدمات منقوصة. في رحلة عملي مررت على الكثير من الموظفين الذين يعانون إرهاق الوظيفة والسبب هو المسؤول المهووس بالرئاسة والمفتون بالتسلط، ما ينعكس سلبا على إنتاجيتهم بل وبسبب روتين العمل الحكومي يتحول المرض الإداري من المسئولين إلى الموظفين وكأنه عدوى فينتشر في المحيط بين الدوائر. إلى أن تقع نتائجه على كتف الأفراد الذين تقدم لهم خدمات تفتقر للجودة، أو للمعاملة الراقية. لذا نرى أن هناك تذمرا على أغلب الخدمات، والسبب أن أغلب الموظفين يعانون تسلطًا غير مبرر واستعبادًا في الوظيفة التي يرون أنها لقمة عيش تلزمهم الصبر على مشقتها بسبب مسئول «يولى عليهم» وهو يفتقد أدنى سمة من سمات القيادة ولا يعلم عن الإدارة شيئا وليس لديه ميزة غير ترهيب أو تضييق على الفريق لأنه بكل بساطة لا يثق في قدراته وبالتالي في أولئك الموظفين فيخاف على منصبه من أي جديد أو طارئ سواء كان موظفا أو مهمة. وعليه، فمحاربة الفساد الإداري هي أولوية ويجب التصدي له لخلق بيئة عمل ناجحة، والعمل على تأهيل الإداريين النفسي والتربوي والإداري قبل إعطائهم أي مسئولية.