بعد أن أقنعني أخي المهندس عمر البدران بأن نصف الكأس الذي دندنّا على فراغه أعمارا متطاولة ليس فارغا، بل ملآن، وتأملت فوجدته ليس ملآن فقط، بل هو ملآن بأنفس ما يحتاج إليه الإنسان، فإذا كان النصف الأول ممتلئا بالماء، فالنصف الثاني ممتلئ بالهواء ولا فرق في الأهمية بينهما! لقد خفتُ بعدها، لأن معنى ذلك أنه لا يوجد فراغ البتة في أي موقع من مواقع الحياة التي نعيشها، فبمجرد أن نفرغها مما نريد، سوف تمتلئ بما تريد هي، أو بما يريد غيرنا!!. إذن نحن أمام قضية خطرة للغاية، قد تصل إلى فساد الحياة، تماما كما يفسد الماء حين يختلط بالكيروسين، لأننا لم نختر بأنفسنا ما نخلطه به، كما أننا سنفقد التميز أيضا، وحين نفقد التميز سوف نكون أي شيء سوى أنفسنا. «يشير مفهوم تميز الفرد إلى قدرته على إنجاز نتائج غير مسبوقة يتفوق بها على نفسه وعلى الآخرين، وأن يتحاشى قدر الإمكان التعرض للخطأ أو الانحراف؛ من خلال الاعتماد على وضوح الرؤية، وتحديد الأهداف، والتخطيط السليم، والتنفيذ السليم، والتقويم المستمر، وبالطبع فإن الالتزام بهذا المفهوم سوف يؤدي إلى نجاح الفرد سواء في عمله أو في حياته». إلى أي مدى نلتزم بأصول التميز هذه، في أنفسنا وفي مؤسساتنا؟ وهل استطعنا أن نحولها إلى ثقافة نورثها لأجيالنا اللاحقة؟ قلبي على شباب أمتي وفتياتها، حين رأيتهم تبعثروا في سراديب يظنون أنها تقودهم إلى التميز؛ فهذا تعلق بوهم الانتصار لدينه فوقع في مصائد التكفيريين، وذاك اغتر بشهرة التافهين ووقع تحت أقدامهم يصعدون على جثث وقته وحياته التي يلقيها إليهم في كل دقيقة!! بمجرد انسياق الشخص تحت تأثير مباشر، ينقاد إليه دون وعي، فقد أصبح نسخة ليست مكررة فقط، بل مهترئة، ضعيفة. إن أهم مصدر للتميز الشخصي على الإطلاق هو الذات العالية، التي لا تقبل أن تقاد مغمضة الأعين، وإذا اقتنعت بالتميز السامي، فلا تحتاج إلى عوامل خارجية إلا أن تكون روافد لهذا التميز (كالأسرة والجامعة والأصحاب والمجتمع والنادي العلمي) فهي تغذي الدوافع الداخلية وحسب. ولذلك فإن علينا– في تربيتنا لأولادنا وطلابنا- أن نستثير الدوافع الداخلية لديهم ليبحثوا هم عن التميز في المجال الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وأية تربية لا ترتكز على تأسيس هذه القيمة الكبرى في نفوس المتربين، فهي تربية مخفقة في بناء المبتكرين الذين يجددون الحياة بل ويصنعونها، وفاشلة في تأهيل القيادات، لأنها تجهل أبجديات صناعتها، ولن تخرج سوى خانعين، يتلفتون طوال حياتهم ليلتفوا حول أي قائد ولو قادهم إلى النار. فالتبعية مهارة، والابتكار مهارة، والقيادة مهارة، وما تدربنا أو دربنا عليه غيرنا فهو الذي سوف يتحول إلى تطبيقات عملية، وعادات عفوية. النجاح بتميز حق الجميع، وإنما خُلقنا لننجح ونتميز، ومن أخفق فذاك راجع إلى اعتبارات شخصية ذاتية، بينما هو حريص على إلقاء إخفاقه على عواتق من حوله، والحقيقة أنه لا يريد أن يتميز، أو يريد ولكنه لا يعمل ليتميز، أو لم يعمل بالقدر الكافي ليتميز، أو يكون ضعيفا يستسلم لأي عارض ويسميه عائقا. لا بد أن يستمر الدافع الشخصي متوقدا لا ينطفئ، والحماسة الواعية المنضبطة نحو الدراسة أو العمل متنامية، والرغبة في التحدي بشيء من الإقدام المدروس، والاندفاع البصير نحو تحقيق الأهداف، تواكب ذلك كله الإيجابية التامة في التعامل مع الآخرين، ومرونة التفكير، وزيادة النشاط المصاحب للارتفاع في القدرات العقلية والأدائية، هذا ما أكدته البحوث العلمية والتجارب العملية. يكفي المتميز أنه يحترم ذاته، فلا يسمح لها بالانحراف أو تكرار الأخطاء، كما أنه يحقق استقلالا يحتفظ فيه بكيانه الخاص، فلا يذوب في تيارات موسمية، بل هو مصاب بإدمان الابتكار والإبداع، لا تتوقف مزرعة أهدافه العليا عن الإنبات، ولذلك تكون لديه رغبة جامحة في القراءة والاطلاع، ليخصب ملكاته، ويقدم جديده المبتكر الأصيل بين الفينة والفينة. ومن أجمل هدايا المتميزين التي يحصلون عليها تلقائيا أنهم يحبون عملهم، ويتلذذون بإنتاجهم، ويتقبلون ما يعترضهم من عقبات على أنها فُرص للمراجعة والتفكير. «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» هذا هو التزامهم مع أنفسهم، ولذلك فهم يبحثون عن الصور النادرة فقط ليتأسوا بها؛ «فبهداهم اقتده»، يتمثلون حياة القادة لا التابعين، يصدقون مع أنفسهم في تحويل الآمال إلى أهداف، وعندها تتسابق أقدامهم لتحقيقها. مجرد الإيمان العميق بأن الإنسان يمتلك من القدرات ما لا يحصيه إلا من فطرها وأبدعها، يحول كيانه إلى طاقة خلاقة مبتكرة، ومن شكر المنعم أن تبذل تلك النعم والملكات فيما يرضي الله تعالى، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.