في باريس وليس في غيرها (لا في القاهرة ولا في بغداد ولا في الشام ولا حتى في الرباط) تجمع باحثون وخبراء في التربية واللسانيات العرب يفكرون فيما آل إليه حال اللغة العربية، وينظرون كيف السبيل إلى إخراج لغة العرب من مأزقها التاريخي الراهن. يتفق الجمع على اختلاف مشاربهم وأقطارهم أن لغتهم تعاني في موطنها، وأنها تتعرض للإقصاء والتهميش، ويغرقون في التفكير والتأمل يتحسسون الدروب إلى الحلول. في ذات الوقت، كانت مدينة عربية عريقة تتحول إلى ركام من الحجارة ويتحول سكانها إلى شظايا وأشلاء. المأزق هذه المرة يتجاوز اللغة إلى الوجود. لم يطرح العرب يوما سؤال الوجود، كانوا في طمأنينة أبدية أن أوطانهم خنادقهم قد تغرق في الوحل لكنها ستظل لهم، كان الجميع منشغلين بسؤال النهوض ولم يعرض لهم يوما سؤال الوجود. اليوم حينما ينظر العربي يجد الخنادق وقد غمرتها الدماء، ودفنت تحت ركام الأشلاء، فيما يجثم فوقها جيوش من كل جنس ولون، روس وإيرانيون وطوائف إثنية ومذهبية حتى الأفغان قدموا لرد الدين على ما يبدو، ألم تصدر لهم هذه الأقطار يوما مقاتلين ذهبوا دفاعا عن إخوة الدين في وجه الغزو الروسي. هاهي اليوم ميليشيات أفغانية شيعية تفد علينا دفاعا عن المذهب في وجه الثورات الشعبية.. يصر البعض على أننا لن نغادر هذه الأوطان وأننا سنظل أغلبية عربية سنية فوق هذه الجغرافيا آمل أن يكونوا كذلك. لكن مشهدين يرفضان مغادرة ذاكرتي، فيثيران الرعب والأسى. المشهد الأول إيران التي طالما صدرت للإسلام العلماء في علوم الدين والدنيا، وظلت حتى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي سنية المذهب عربية اللسان، ثم جاء عباس الأول الصفوي فاقتلع اللغة والمذهب، وصارت إيران منذ ذلك الحين قاعدة لدولة فارسية شيعية تحلم بأمجاد كسرى. وأوشك العراق يومها أن يحمل على التشيع إذ غزاه عباس الأول واحتل بغداد وقتل الكثير من أهلها السنة وعلمائهم وفرض التشيع في بغداد والبصرة، وظل كذلك حتى طرد السلطان سليمان القانوني الصفويين من العراق. أما المثال الثاني فهو أكثر بشاعة، القرن الرابع الهجري لمَنْ لا يعلم يسمى القرن الإسماعيلي، لأن الشيعة الإسماعيلية اجتاحوا العالم الإسلامي من المغرب وحتى بلاد الشام مرورا بمصر واليمن. في ذاك القرن تحول السنة إلى أقليات مبعثرة، بينما فرضت الدول العبيدية (الفاطمية) سياساتها على مناطق شاسعة من العالم الإسلامي، وتولى وكلاء لها أو حلفاء حكم أجزاء أخرى من اليمن وبلاد الشام وغرب إيران. لم يعد السنة أغلبية في أوطانهم إلا بعد قرون توجها صلاح الدين الأيوبي، الذي أعاد مصر سنية وحول الأزهر إلى جامعة سنية بعد أن كان مركزا لنشر التشيع. أزمة العربية تعكس في جوهرها أزمة العرب، وفي حلب المذبوحة تبدو أزمة العرب وقد باتت أزمة وجود وصراع على هوية المنطقة ووجهها.