مبهجة تلك الهبّات الشعبية التي تؤدي فروض المقاطعة الاقتصادية لشركات أو منتجات أو بضائع أو خدمات أو سلع في السعودية. فهي بمثابة اللبنات الأولى للتعاقد الاجتماعي، المؤسس بدوره لبنيات المجتمع المدني. خصوصاً أنها تأتي انتصاراً للفئات المتضررة من جشع وتجاوز الشركات. ومن دون أي غطاء رسمي لحماية المستهلك. وفي ظل غياب ثقافة الدفاع عن المستهلكين. وهي بالتالي تمثل صوت الناس الذين أثبتوا قدرة عجيبة على تنظيم أنفسهم في حملات لافتة تظهر بين آونة وأخرى لاسترداد بعض الحقوق، أو إعادة التوازن للأسعار وتجويد الخدمة والمنتجات. وهي مطالب عادلة وملّحة ولا تخل بالاقتصاد الوطني. ليس كل المتضررين على درجة من الوعي والحماس للمشاركة في حملات المقاطعة. وهو أمر مفهوم لأسباب موضوعية كثيرة. حيث لا يرى بعض المستهلكين أي جدوى من تلك الحملات الوقتية التي تتوقف بدون إحداث أي أثر يذكر. كما أن هناك من يرفض المشاركة بحجة أن الحملات مجرد كرنفالات استعراضية لبعض المدّعين في مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك لا يتمكن معظم المستهلكين من المشاركة بسبب عدم درايتهم بالحملة. وذلك يعود إلى غيابهم عن فضاء الانترنت وعدم إطلاعهم على سيرورة حملات المقاطعة. هذا بالإضافة إلى حداثة ثقافة المقاطعة، وكسل بعض المقاطعين عن إيجاد البدائل للبضاعة المقاطعة. ولا يتوقف الأمر عند ضعف الإقبال الجماهيري على فعل المقاطعة. بل تتعرض الحملات إلى السخرية أحياناً، وإلى تحقير جهد القائمين عليها أحياناً أخرى. فيما تمارس الشركات المستهدفة حملات ترويجية مضادة، اعتماداً على نجوم مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يتحولون إلى لوحات إعلانية منذورة لإجهاض أي حملة عادلة. وهو ما يشكل خيانة صريحة للجمهور والمبدأ والقيمة والموقف. إلا أن القائمين على الحملات صاروا أكثر وعياً بكل وسائل التحبيط. فقد طوروا أدوات تصديهم للإعلام المضلل، وأجادوا توظيف إعلام المواطن. وهو تحول على درجة من الأهمية. حيث استقطبت الحملات الخبراء في مختلف الحقول سواء على المستوى التكنولوجي أو إدارة المجاميع البشرية، وإثارة انتباه الرأي العام من خلال المعلومة إلى جانب العاطفة المتوائمة مع فكرة المواطنة. تراهن الشركات على تعب المقاطعين. وعلى تبديد أي جهد في هذا الاتجاه. بالنظر إلى عدم وجود كيان حقوقي قادر على الدفاع القانوني عن حقوق المستهلك. كما تراهن على ضعف الآلة الإعلامية للعقول التي تدير المقاطعة. إلا أن اللافت هو حضور عنصر الاستمرارية في معظم الحملات. ووجود آليات لقياس أثر كل حملة من الوجهة الاقتصادية تحديداً. وانتشار عدوى المقاطعة بين الجمهور بشكل أسرع مما كانت عليه الأمور في السابق. وذلك يعود إلى تطوير آليات التواصل الجماهيري. وظهور قناعات جديدة بجدوى فعل الرقابة الاجتماعية على السلع والخدمات. وهو ما يعني تزايد إيمان الفرد بأهمية دوره في تحسين الخدمات التي يدفع من ماله سبيل تجويدها. ينظر إلى حملات المقاطعة على أنها رفاهية شعبية بدون مخالب. وهذا هو سر قوتها. فهي لا تتكئ على مفاعيل سلطة سوى سلطة الجمهور الرازح تحت وطأة غلاء الأسعار وسوء الخدمات. وهو جمهور غير مسيس ولا يحمل أي أحقاد طبقية. وهذا هو مكمن فاعليتها. لأنها وهبت المستهلك صوتاً. وأعطته فرصة التحرر من سلطة الإعلام الرسمي، والإعلان التجاري. كما جعلته قادراً على اختيار السلع والخدمات التي تليق به كمواطن. وكذلك أوجدت له مرجعية يمكنه من خلالها التفاوض مع الشركات. فهناك ثقة جماهيرية واضحة في حراك المقاطعة المنظم. وكل ذلك نتيجة طبيعية لحملات مكثفة واضحة التعريف، معلومة الأهداف. حيث تبدو الاستجابة لها كبيرة حتى في الأوساط النخبوية التي كانت تتردد في الإقرار بأهميتها.