ماذا أقول لأمي.... وهي تتوشح السواد في هذا العيد؟!! أمي (خديجة) التي فقدت والدها (عايش البريمان) قبل أيام كانتْ تنذر أوقاتها ابتهالاً للبهجة حيثُ نلتمُّ حولها كدائرة الرحى نطحن الذكريات الجميلة بثرثراتنا القروية التي لم تتحجر رغم انزياحنا لمدن الإسمنت. أمي وهي تتلفع بالسواد تشاكسُ أطفالنا بضحكةٍ مزيفة ومثل أمي لا تعرف الزيف أبداً لكنها مضطرة تحت وابل الدموع والأسى الذي خلفه جدي عايش/عايش... يرقد تحت الثرى بعدما أخلص حياته للحياة وكابد التصحر حتى تبدو نخلتنا الأحسائية بحلتها الخضراء إذ يتذكر الجميع قفزاته المكوكية على جذع النخلة أياً كان علوها فهو يمارس بهلوانيته ويتغنى بالسماوات كلما شنّفت أسماعه الريح بهذيان السعف حيث يطيب له المكوث في القمة ؛ لكنه هبط وترك وراءه نخلاً عامراً بالحب. أمي تكاد لا تسمعني حين أقول لها: «عيدك مبارك» ليس كعادتها حيث تهاتف أولادها باكراً بل لا نصحو لأداء فريضة العيد إلا باتصالها، ثمة جرحٌ غائر لم أتصوره يحدث إلا مع وفاة والدها رغم ما بها من أمراض القلب والكولسترول إلا أنها كالطفلة بين أطفالنا وكالصديقة حين نتحدث باسهاب عن متاعب الشغل و كالأخت حين نلوم بعضنا في تصيره تجاه الآخر. أمي ومن مثل أمي إلا باقي الأمهات اللاتي يتهامسن برغبة الحلم كي نعيش حياة أفضل ونحن نصارع التيه والأزمنة الصعبة و نواكب رهانات التغيير في بلدنا الذي يعج بالأزمات الاقتصادية إلا أنها تُشمر عن ساعديها وتبتسم وهي تقول: «فيكم البركة» و «الدنيا بخير بس يبغالها صبر» لكن صبرنا ليس كصبرك يا أمي لقد خسرنا الكثير من فرط العجلة والندم والتردد. أمي والله يجتاحني خجلٌ عارم من المسافات التعيسة التي تُبعدني عن طيب الجلسة معك وووو كلما قرأتُ دمعة في شهقات المعزين أدرك تماماً أنها لم تخرج إلا بمحبةٍ رفيعة المستوى حيث كان الأبناء والأحفاد يمدون قلوبهم نحو القادمين من كل فجِّ كانتْ أطيافُ الرحمة شآبيب نور تخرج من نافذة الغياب ولكن الرحيل لا يعرف أحداً بل يغلق نوافذه برعشةٍ إما خائفة أو مطمئنة ومن يهوى أحداً لا يملك إلا الطمأنينة رأسمال القدر الذي يملأ خزائن السماوات والأرض وهو شفيعنا -لخير خلف- بهذه الوفاة الهادئة كنسمة صيف. فلا تزال طفولتي تمرح على كف القدر، وقريتي التي كبرت في أعين الإسمنت وصارت بلدة بحجم مدينة تطوقها النخيل مازالتْ... صغيرة في داخلي، كما أمرح بين يديك تمرح بين يدي حيث نتمايل طرباً بشوقٍ غجري لا نكاد نتوقف من فرط التداعي. أيامٌ معدودة على وفاة جدي واقتحمنا العيد الذي اعتدنا أن نقتحمه بآمالنا المنذورة للوجد، كل من نعرفهم تبرق في عيونهم أسئلة الهوى من نعرفهم ومن لا نعرفهم ثمة فقدٌ جامح في صدر الجميع مع أن الحياة في القرية لا تستحق سوى الأمل؛ فيا أيها الأمل دعني أراك وإلا سأمضي باتجاهٍ آخر حتى أفقدني فما أجمل فقد الذات وما أجمل اللقاء بها في آن.... نحن لا شيء إذا انعدمتْ رغبتنا في الحياة؛ أليس كذلك؟ العيد حامضٌ هذا العام وسيعود طعمه الغارق بشهوة السكاكر قريباً حيث نتذكر جدي بمحاسنه وتصبح الدمعة عِبرة وليستْ عَبرة فحسب... لقد مات من كان (عايش) ولكنه لم يمتْ/فمن يسكن في قلوب محبيه يبقى خالداً بروح الله. يظل الحزنُ طعنة مباغتة لكننا نقاوم الوجع برغبتنا في الحياة ونتصبر على الفجيعة بهواجسنا المترفة حيث يكون الصمت وراءه حكاية جميلة أو أغنية مبحوحة أو فكرة يطحنها الإلهام في رحى الوقت أو..................... أردد ما قاله المتنبي: عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي شَيءً تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جيدُ وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ الدمعة ليست بكاء بل شعورٌ بالفقد إنها على الأرجح مرثية شاعر لم تستوعبه القصيدة؛ لذلك... من يتذكر قبل أن يبكي عزيز قومه هو الذي يفتخر به لا من ينتحب عليه دون شعور؛ ذلك أنا.