ظلت دول مجلس التعاون الخليجي ردحا طويلا من الزمن تتساءل هل هي قادرة بالفعل على الولوج في عصر التصنيع؟ وهل هي تمتلك بالفعل المعطيات والمقومات الأساسية للصناعة والتنمية الصناعية؟ وهل تمتلك الخبرة اللازمة للمضي قدما في مشروعاتها الصناعية؟ وهل تتخلى عن دورها التاريخي كاقتصاديات نفطية؟ هل سيؤثر التصنيع على الصناعة النفطية والتجارة والزراعة والبيئة والمجتمع سلبا أم إيجابا؟ هل تمتلك المواد الأولية المطلوبة لحركة التصنيع أو تتمكن من استيرادها دون عقبات أو تكلفات مرتفعة؟ هل لديها التكنولوجيا والإدارة والموارد البشرية اللازمة للتصنيع؟ وإذا كانت تمتلك أهم مقومات الصناعة - كالتمويل مثلا - فمن أين تبدأ؟ كما سمعنا محللين ينصحون بعض دول المجلس بالتركيز على قطاعات الخدمات، متناسين أن هذه القطاعات لا يمكن أن تنمو بمعزل عن نمو القطاعات الإنتاجية. وليس من قبيل المبالغة في القول ان معظم بلدان الخليج العربي - شأنها شأن كثير من البلدان النامية - لم تكن تمتلك في بدايات عهد نموها الإجابة عن كل التساؤلات السابقة بالشكل المقبول، إذ ان كثيرا من تلك البلدان افتقرت في بداية نهضتها النفطية إلى أجهزة تخطيط مركزية وإحصاءات وبيانات وقاعدة معلومات أو مراكز بحث وتطوير قادرة على بحث ودراسة الحجج والتبريرات المؤيدة أو الحجج والتبريرات المضادة لفكرة التصنيع. أضف الى ذلك ان هذه البلدان لم تكن تمتلك الإدارات التنفيذية المتطورة ابان الأربعينيات عندما اكتشف وانتج نفط الخليج. فقد كانت خبرتها محصورة فقط في مجال التجارة مع الشرق وبالذات مع شبه القارة الهندية. ولكن مع تعزز برامج التنمية خلال عقد الثمانينيات بادرت دول المجلس لوضع خطط التنويع الاقتصادي والصناعي. وقد برزت في عدد من دول المجلس من بينها السعودية والبحرين والكويت وقطر صناعات منوعة وضخمة ساهم في تشييدها كل من الحكومات والقطاع الخاص، مما ساهم في تعظيم قيمة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي إلى نحو الثلث، كما يقدر أن تبلغ الاستثمارات في القطاع الصناعي نحو تريليون دولار عام 2020. مع ذلك لا يزال يواجه المستثمرين الصناعيين العديد من التحديات. فعلاوة على مشكلة التمويل التي سوف تظل تمثل مشكلة رئيسية لغالبية المستثمرين في البلدان الخليجية، فان هؤلاء المستثمرين لا يزالون يفتقرون إلى قاعدة معلومات وبيانات واحصائيات عن مختلف القطاعات الاقتصادية بما فيها المعلومات عن العناصر والموارد الإنتاجية المتاحة وبالخصوص الموارد البشرية والكفاءات الفنية والإدارية الحالية والمستقبلية، وماهية المهارات الموجودة لدى القوى البشرية المتعطلة عن العمل ومصادر التعليم والتدريب القادرة على تطويع التعليم والتدريب للصناعة ومدى انسجام المعروض من العمالة والموارد البشرية مع المطلوب منها في سوق العمل في قطاع الصناعة. كما تسعى دول المجلس في الوقت الحاضر إلى وضع إستراتيجية موحدة لتنمية الصناعات غير النفطية، وقد قطعت شوطا بعيدا في الانتهاء من هذه الإستراتيجية وإدماجها في الخارطة الصناعية التي وضعتها منظمة الخليج للاستشارات الصناعية. فمن المحذورات هنا هو الوقوع في عدم الانسجام ما بين إستراتيجية التنمية الصناعية الخليجية وإستراتيجيات التنمية الصناعية الوطنية أو وجود تفاوت واختلاف من حيث التمويل أو المواد الأولية أو مختلف اشكال الدعم الحكومي أو نتيجة انفراد البرنامج الصناعي أو السياسة الصناعية في خطة منعزلة عن أهداف السياسة الاقتصادية الوطنية أو عن واقع الوضع الاقتصادي العام. كما ان كثيرا من البلدان النامية - بما فيها بلدان الخليج العربي- كانت في الماضي تفتقر الى سياسات تنمية اقتصادية وطنية شاملة بالشكل الاقتصادي العلمي المعروف تحدد مسارها الاقتصادي والتنموي وتثبت مكانها في الخريطة الانتاجية العالمية. ولهذا جاءت الهياكل الاقتصادية الخليجية تعاني من التماثل من حيث الصناعات نتيجة اعتمادها على سلعة انتاجية واحدة هي النفط، مما ادى الى تصنيفها بين الساسة وعلماء الاقتصاد بتصنيف اقتصاديات السلعة أو المورد الواحد التي تعتمد في انتاجها القومي وفق تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية على شريان انتاجي رئيسي واحد. كما ان القطاع الخاص تجده في بعض الاحيان متلكئا في تبني المشاريع الصناعية خاصة المشاريع الصناعية الكبيرة لعدة أسباب منها محدودية خبرة وتجربة القطاع الخاص الخليجي في التصنيع الحديث وفي التسويق العالمي. اذ ان تجربة تجار الخليج حتى فترة الستينيات كانت معظمها محصورة في التجارة والخدمات وفي نطاق الأسواق المحلية. ومما يزيد من تلكؤ القطاع الخاص الخليجي في الاستثمار الصناعي ايضا هو ان طبيعة الاستثمار الصناعي استثمار طويل الأجل، لا يحقق في الغالب ارباحا سريعة في الأجل القصير. كما ان قرارات نجاحه تعتمد الى حد كبير على الدعم الحكومي. بعكس الحال في الاستثمار في التجارة والخدمات والمقاولات الانشائية التي تستطيع البقاء حتى في حالة انخفاض او انعدام الدعم الحكومي. اضف لذلك ان القطاع العام الخليجي ما زال يهيمن على اقتصاديات بلدانها بالرغم من دعوات المنظمات الدولية لتحرير الاقتصاد وتفعيل دور القطاع الخاص، مما اثر بشكل واضح في تلكؤ القطاع الخاص في الاستثمار في الصناعة. ولا شك ان استعادة ثقة القطاع الخاص تمثل عقبة وتحديا أمام غالبية واضعي استراتيجيات التصنيع الخليجيين. فكيف يمكن رسم خطة صناعية قومية دون معرفة تجاوب المستثمر الصناعي؟ كما ان معظم الصناعات الإستراتيجية الخليجية تعتمد على اساليب وفنون وأدوات وتقنيات يمتلكها ويتحكم فيها الغرب بصورة رئيسية، بل ان كثيرا من الدول الصناعية تفرض قوانين وأنظمة لحماية الملكية الفكرية على كثير من منتجاتها ومخترعاتها تحظر تصدير بعض المنتجات او الحقوق او التراخيص الصناعية الى خارج اوطانها. ومع ان هذه العقبة بدأت تتفكك قليلا بسبب التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات وبسبب تطور فنون نقل التكنولوجيا بين بلدان العالم وبالخصوص السهولة النسبية في تنقل العقول والخبرات البشرية، الا ان هذه العقبة ما زالت تمثل هاجسا وتحديا امام واضعي السياسات الصناعية في البلدان الخليجية.